الأظهر عندي أن (كَذلِكَ) ابتداء كلام يتنزل منزلة الإخبار بالنتيجة عقب ذكر الدليل. والمعنى : كذلك أمر الاختلاف في ظواهر الأشياء المشاهد في اختلاف ألوانها وهو توطئة لما يرد بعده من تفصيل الاستنتاج بقوله : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ) أي إنما يخشى الله من البشر المختلفة ألوانهم العلماء منهم ، فجملة (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) مستأنفة عن جملة (كَذلِكَ). وإذا علم ذلك دل بالالتزام على أن غير العلماء لا تتأتّى منهم خشية الله فدلّ على أن البشر في أحوال قلوبهم ومداركهم مختلفون. وهذا مثل قوله : (إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) [فاطر : ١٨].
وأوثر هذا الأسلوب في الدلالة تخلصا للتنويه بأهل العلم والإيمان لينتقل إلى تفصيل ذلك بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ) [فاطر : ٢٩] الآية ...
فقوله : (كَذلِكَ) خبر لمبتدإ محذوف دل عليه المقام. والتقدير : كذلك الاختلاف ، أو كذلك الأمر على نحو قوله تعالى في سورة الكهف [٩١] : (كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً) وهو من فصل الخطاب كما علمت هنالك ولذلك يحسن الوقف على ما قبله ويستأنف ما بعده.
وأما جعل (كَذلِكَ) من توابع الكلام السابق فلا يناسب نظم القرآن لضعفه.
والقصر المستفاد من (إِنَّما) قصر إضافي ، أي لا يخشاه الجهال ، وهم أهل الشرك فإن من أخص أوصافهم أنهم أهل الجاهلية ، أي عدم العلم ؛ فالمؤمنون يومئذ هم العلماء ، والمشركون جاهلون نفيت عنهم خشية الله. ثم إن العلماء في مراتب الخشية متفاوتون في الدرجات تفاوتا كثيرا. وتقديم مفعول (يَخْشَى) على فاعله لأن المحصور فيهم خشية الله هم العلماء فوجب تأخيره على سنة تأخير المحصور فيه.
والمراد بالعلماء : العلماء بالله وبالشريعة ، وعلى حسب مقدار العلم في ذلك تقوى الخشية ؛ فأما العلماء بعلوم لا تتعلق بمعرفة الله وثوابه وعقابه معرفة على وجهها فليست علومهم بمقربة لهم من خشية الله ، ذلك لأن العالم بالشريعة لا تلتبس عليه حقائق الأسماء الشرعية فهو يفهم مواقعها حق الفهم ويرعاها في مواقعها ويعلم عواقبها من خير أو شر ، فهو يأتي ويدع من الأعمال ما فيه مراد الله ومقصد شرعه ، فإن هو خالف ما دعت إليه الشريعة في بعض الأحوال أو في بعض الأوقات لداعي شهوة أو هوى أو تعجل نفع دنيوي كان في حال المخالفة موقنا أنه مورّط فيما لا تحمد عقباه ، فذلك الإيقان لا يلبث أن ينصرف به عن الاسترسال في المخالفة بالإقلاع أو الإقلال.