و (مِنْ) ابتدائية ، أي شيئا ناشئا من الأرض ، أو تبعيضية على أن المراد بالأرض ما عليها كإطلاق القرية على سكانها في قوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢].
و (أَمْ) منقطعة للإضراب الانتقالي ، وهي تؤذن باستفهام بعدها. والمعنى : بل ألهم شرك في السماوات.
والشرك بكسر الشين : اسم للنصيب المشترك به في ملك شيء.
والمعنى : ألهم شرك مع الله في ملك السموات وتصريف أحوالها كسير الكواكب وتعاقب الليل والنهار وتسخير الرياح وإنزال المطر.
ولما كان مقرّ الأصنام في الأرض كان من الراجح أن تتخيّل لهم الأوهام تصرفا كاملا في الأرض فكأنهم آلهة أرضية ، وقد كانت مزاعم العرب واعتقاداتهم أفانين شتى مختلطة من اعتقاد الصابئة ومن اعتقاد الفرس واعتقاد الروم فكانوا أشباها لهم فلذلك قيل لأشباههم في الإشراك (أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) ، أي فكان تصرفهم في ذلك تصرف الخالقية ، فأما السماوات فقلما يخطر ببال المشركين أن للأصنام تصرفا في شئونها ، ولعلهم لم يدّعوا ذلك ولكن جاء قوله : (أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) مجيء تكملة الدليل على الفرض والاحتمال ، كما يقال في آداب البحث «فإن قلت». وقد كانوا ينسبون للأصنام بنوة لله تعالى قال تعالى : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) [النجم : ١٩ ـ ٢٣].
فمن أجل ذلك جيء في جانب الاستدلال على انتفاء تأثير الأصنام في العوالم السماوية بإبطال أن يكون لها شرك في السماوات لأنهم لا يدّعون لها في مزاعمهم أكثر من ذلك.
ولما قضي حق البرهان العقلي على انتفاء إلهية الذين يدعون من دون الله انتقل إلى انتفاء الحجة السمعية من الله تعالى المثبتة آلهة دونه لأن الله أعلم بشركائه وأنداده لو كانوا ، فقال تعالى : (أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ) على بينات منه المعنى : بل آتيناهم كتابا فهم يتمكنون من حجة فيه تصرح بإلهية هذه الآلهة المزعومة.
وقرأ نافع وابن عامر والكسائي وأبو بكر عن عاصم على بينات بصيغة الجمع. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وحفص عن عاصم ويعقوب (عَلى بَيِّنَةٍ) بصيغة الإفراد.