وجملة (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) في موضع صفة ثانية ل (رَجُلٍ) أتوا بها استفهامية لتشريك المخاطبين معهم في ترديد الرجل بين هذين الحالين.
وحذفت همزة فعل (أَفْتَرى) لأنها همزة وصل فسقطت لأن همزة الاستفهام وصلت بالفعل فسقطت همزة الوصل في الدرج.
وجعلوا حال الرسول صلىاللهعليهوسلم دائرا بين الكذب والجنون بناء على أنه إن كان ما قاله من البعث قاله عن عمد وسلامة عقل فهو في زعمهم مفتر لأنهم يزعمون أن ذلك لا يطابق الواقع لأنه محال في نظرهم القاصر ، وإن كان قاله بلسانه لإملاء عقل مختلّ فهو مجنون وكلام المجنون لا يوصف بالافتراء. وإنما ردّدوا حاله بين الأمرين بناء على أنه أخبر عن تلقي وحي من الله فلم يبق محتملا لقسم ثالث وهو أن يكون متوهما أو غالطا كما لا يخفى.
وقد استدل الجاحظ بهذه الآية لرأيه في أن الكلام يصفه العرب بالصدق إن كان مطابقا للواقع مع اعتقاد المتكلم لذلك ، وبالكذب إن كان غير مطابق للواقع ولا للاعتقاد ، وما سوى هذين الصنفين لا يوصف بصدق ولا كذب بل هو واسطة بينهما وهو الذي يخالف الواقع ويوافق اعتقاد المتكلم أو يخالف الاعتقاد الواقع أو يخالفهما معا ، أو لم يكن لصاحبه اعتقاد ، ومن هذا الصنف الأخير كلام المجنون.
ولا يصح أن تكون هذه الآية دليلا له لأنها حكت كلام المشركين في مقام تمويههم وضلالهم أو تضليلهم فهو من السفسطة ، ثم إن الافتراء أخص من الكذب لأن الافتراء كان عن عمد فمقابلته بالجنون لا تقتضي أن كلام المجنون ليس من الكذب بل إنه ليس من الافتراء.
والافتراء : الاختلاق وإيجاد خبر لا مخبر له. وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) في سورة العقود [١٠٣].
وقد ردّ الله عليهم استدلالهم بما أشار إلى أنهم ضالّون أو مضلّون ، وواهمون أو موهمون فأبطل قولهم بحذافره بحرف الإضراب ، ثم بجملة (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ). فقابل ما وصفوا به الرسول صلىاللهعليهوسلم بوصفين : أنهم في العذاب وذلك مقابل قولهم : (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) لأن الذي يكذب على الله يسلط الله عليه عذابه ، وأنهم في (الضَّلالِ الْبَعِيدِ) وذلك مقابل قولهم : (بِهِ جِنَّةٌ).