الأبعاد فأبعاد فلك الشمس تفوت أبعاد فلك القمر بمئات الملايين من الأميال ، حتى يلوح لنا حجم الشمس مقاربا لحجم القمر. فبين الله أنه نظم سير الشمس والقمر على نظام يستحيل معه اتصال إحدى الكرتين بالأخرى لشدة الأبعاد بين مداريهما.
فمعنى : (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) نفي انبغاء ذلك ، أي نفي تأتيه ، لأن انبغى مطاوع بغى الذي هو بمعنى طلب ، فانبغى يفيد أن الشيء طلب فحصل للذي طلبه ، يقال : بغاه فانبغى له ، فإثبات الانبغاء يفيد التمكن من الشيء فلا يقتضي وجوبا ، ونفي الانبغاء يفيد نفي إمكانه ولذلك يكنى به عن الشيء المحظور. يقال : لا ينبغي لك كذا ، ففرق ما بين قولك : ينبغي أن لا تفعل كذا ، وبين قولك : لا ينبغي لك أن تفعل كذا ، قال تعالى : (قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ) [الفرقان : ١٨] وتقدم قوله تعالى : (وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) في سورة مريم [٩٢] ، ومنه قوله تعالى : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ) [يس : ٦٩] في هذه السورة.
والإدراك : اللحاق والوصول إلى البغية فقوله : (أَنْ تُدْرِكَ) فاعل (يَنْبَغِي) فأفاد الكلام نفي انبغاء إدراك الشمس القمر. والمعنى : نفي أن تصطدم الشمس بالقمر ، خلافا لما يبدو من قرب منازلهما فإن ذلك من المسامتة لا من الاقتراب. وصوغ هذا بصيغة الإخبار عن المسند إليه بالمسند الفعلي لإفادة تقوّي حكم النفي فذلك أبلغ في الانتفاء مما لو قيل : لا ينبغي للشمس أن تدرك القمر.
وافتتاح الجملة بحرف النفي قبل ذكر الفعل المنفي ليكون النفي متقررا في ذهن السامع أقوى مما لو قيل : الشمس لا ينبغي لها أن تدرك القمر ، فكان في قوله : (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) خصوصيتان.
ولمّا ذكر الشمس والقمر وكانت الشمس مقارنة للنهار في مخيلات البشر ، وكان القمر مقارنا لليل ، وكان في نظام الليل والنهار منافع للناس اعترض بذكر نظام الشمس والقمر أثناء الاعتبار بنظام الليل والنهار.
ومعنى : (وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) أن الليل ليس بمفلت للنهار ، فالسبق بمعنى التخلص والنجاة ، كقول مرة بن عدّاء الفقعسي :
كأنّك لم تسبق من الدهر مرّة |
|
إذا أنت أدركت الذي كنت تطلب |
وقوله تعالى : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا) في سورة العنكبوت