حيث الحكمة العظيمة في الإلهام وتسخير البحر لها وإيجادها في وقت الحاجة لحفظ النوع ، فلذلك لم يؤت في جانبها بفعل الخلق المختص بالإيجاد دون صنع الناس. وحكيت آية اتخاذ الرواحل بفعل (خَلَقْنا) ، ونظير هذه المقارنة قوله تعالى : (وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ) [الزخرف : ١٢] ، فما صدق (ما يَرْكَبُونَ) هنا هو الرواحل خاصة لأنها التي تشبه الفلك في جعلها قادرة على قطع الرمال كما جعل الفلك صالحا لمخر البحار ، وقد سمت العرب الرواحل سفائن البرّ و (مِنْ) التي في قوله : (مِنْ مِثْلِهِ) بيانية بتقديم البيان على المبين وهو جائز على الأصح ، أو مؤكدة ومجرورها أصله حال من (ما) الموصولة في قوله : (ما يَرْكَبُونَ). والمراد المماثلة في العظمة وقوة الحمل ومداومة السير وفي الشكل.
وجملة (وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ) عطف على جملة (أَنَّا حَمَلْنا) ذرياتهم باعتبار دلالتها الكنائية على استمرار هذه الآية وهذه المنة تذكيرا بأن الله تعالى الذي امتنّ عليهم إذا شاء جعل فيما هو نعمة على الناس نقمة لهم لحكمة يعلمها. وهذا جرى على عادة القرآن في تعقيب الترغيب بالترهيب وعكسه لئلا يبطر الناس بالنعمة ولا ييأسوا من الرحمة. وقرينة ذلك أنه جيء في هذه الجملة بالمضارع المتمحّض في سياق الشرط لكونه مستقبلا ، وهذا كقوله تعالى : (أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً) [الإسراء : ٦٨ ـ ٦٩].
والصريخ : الصارخ وهو المستغيث المستنجد تقول العرب : جاءهم الصريخ ، أي المنكوب المستنجد لينقذوه ، وهو فعيل بمعنى فاعل. ويطلق الصريخ على المغيث فعيل بمعنى مفعول ، وذلك أن المنجد إذا صرخ به المستنجد صرخ هو مجيبا بما يطمئن له من النصر. وقد جمع المعنيين قول سلامة بن جندل أنشده المبرد في «الكامل» :
إنا إذا أتانا صارخ فزع |
|
كان الصراخ له قرع الظنابيب |
والظنابيب : جمع ظنبوب وهو مسمار يكون في جبة السنان. وقرع الظنابيب تفقد الأسنة استعدادا للخروج.
والمعنى : لا يجدون من يستصرخون به وهم في لجج البحر ولا ينقذهم أحد من الغرق.