إيماء إلى بشارة النبي صلىاللهعليهوسلم بأنه بعد تكذيب قومه وضيق حاله منهم سيئول شأنه إلى عزة عظيمة وتأسيس ملك أمة عظيمة كما آلت حال داود ، وذلك الإيماء أوضح في قوله تعالى: (اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ) الآية في سورة ص [١٧]. وسمّى الطيبي هذا الانتقال إلى ذكر داود وسليمان تخلصا ، والوجه أن يسميه استطرادا أو اعتراضا وإن كان طويلا ، فإن الرجوع إلى ذكر أحوال المشركين بعد ما ذكر من قصة داود وسليمان وسبأ يرشد إلى أن إبطال أحوال أهل الشرك هي المقصود من هذه السورة كما سننبه عليه عند قوله تعالى : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) [سبأ : ٢٠].
وتقديم التعريف بداود عليهالسلام عند قوله تعالى : (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) في سورة النساء [١٦٣] وعند قوله : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ) في سورة الأنعام [٨٤].
و (من) في قوله : (مِنَّا) ابتدائية متعلقة ب (آتَيْنا) ، أي من لدنّا ومن عندنا ، وذلك تشريف للفضل الذي أوتيه داود ، كقوله تعالى : (رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا) [القصص : ٥٧]. وتنكير (فَضْلاً) لتعظيمه وهو فضل النبوءة وفضل الملك ، وفضل العناية بإصلاح الأمة ، وفضل القضاء بالعدل ، وفضل الشجاعة في الحرب ، وفضل سعة النعمة عليه ، وفضل إغنائه عن الناس بما ألهمه من صنع دروع الحديد ، وفضل إيتائه الزبور ، وإيتائه حسن الصوت ، وطول العمر في الصلاح وغير ذلك.
وجملة (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ) مقول قول محذوف ، وحذف القول استعمال شائع ، وفعل القول المحذوف جملة مستأنفة استئنافا بيانيا لجملة (آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً).
وفي هذا الأسلوب الذي نظمت عليه الآية من الفخامة وجلالة الخالق وعظم شأن داود مع وفرة المعاني وإيجاز الألفاظ وإفادة معنى المعية بالواو دون ما لو كانت حرف عطف.
والأمر في (أَوِّبِي مَعَهُ) أمر تكوين وتسخير.
والتأويب : الترجيع ، أي ترجيع الصوت ، وقيل : التأويب بمعنى التسبيح لغة حبشية فهو من المعرب في اللغة العربية ، وتقدم ذكر تسبيح الجبال مع داود في سورة الأنبياء.
و (الطَّيْرَ) منصوب بالعطف على المنادى لأن المعطوف المعرّف على المنادى يجوز نصبه ورفعه ، والنصب أرجح عند يونس وأبي عمرو وعيسى بن عمر والجرميّ وهو أوجه ، ويجوز أن يكون (وَالطَّيْرَ) مفعولا معه ل (أَوِّبِي). والتقدير : أوبي معه ومع الطير ، فيفيد أن الطير تأوّب معه أيضا.