فالذي بدا لي أن نقول : إن القرآن نزل بأفصح لغات البشر التي تواضعوا واصطلحوا عليها ولو أن كلاما كان أفصح من كلام العرب أو أمة كانت أسلم طباعا من الأمة العربية لاختارها الله لظهور أفضل الشرائع وأشرف الرسل وأعز الكتب الشرعية.
ومعلوم أن القرآن جاء معجزا لبلغاء العرب فكانت تراكيبه ومعانيها بالغين حدّا يقصر عنه كل بليغ من بلغائهم على مبلغ ما تتسع له اللغة العربية فصاحة وبلاغة فإذا كانت نهاية مقتضى الحال في مقام من مقامات الكلام تتطلب لإيفاء حقّ الفصاحة والبلاغة ألفاظا وتركيبا ونظما فاتفق أن كان لمجموع حركاتها وسكوناتها ما كان جاريا على ميزان الشعر العربي في أعاريضه وضروبه لم يكن ذلك الكلام معدودا من الشعر لو وقع مثله في كلام عن غير قصد فوقوعه في كلام البشر قد لا يتفطن إليه قائله ولو تفطن له لم يعسر تغييره لأنه ليس غاية ما يقتضيه الحال ، اللهم إلّا أن يكون قصد به تفننا في الإتيان بكلام ظاهره نثر وتفكيكه نظم.
فأما وقوعه في كلام الله تعالى فخارج عن ذلك كله من ثلاثة وجوه :
أحدها : أن الله لا يخفى عليه وقوعه في كلام أوحى به إلى رسوله صلىاللهعليهوسلم.
الثاني : أنه لا يجوز تبديل ذلك المجموع من الألفاظ بغيره لأن مجموعها هو جميع ما اقتضاه الحال وبلغ حد الإعجاز.
الثالث : أن الله لا يريد أن يشتمل الكلام الموحى به من عنده على محسّن الجمع بين النثر والنظم لأنه أراد تنزيه كلامه عن شائبة الشعر.
واعلم أن الحكمة في أن لا يكون القرآن من الشعر مع أن المتحدّين به بلغاء العرب وجلّهم شعراء وبلاغتهم مودعة في أشعارهم هي الجمع بين الإعجاز وبين سدّ باب الشبهة التي تعرض لهم لو جاء القرآن على موازين الشعر ، وهي شبهة الغلط أو المغالطة بعدّهم النبيصلىاللهعليهوسلم في زمرة الشعراء فيحسب جمهور الناس الذين لا تغوص مدركاتهم على الحقائق أن ما جاء به الرسول ليس بالعجيب ، وأن هذا الجائي به ليس بنبي ولكنه شاعر ، فكان القرآن معجزا لبلغاء العرب بكونه من نوع كلامهم لا يستطيعون جحودا لذلك ، ولكنه ليس من الصنف المسمّى بالشعر بل هو فائق على شعرهم في محاسنه البلاغية وليس هو في أسلوب الشعر بالأوزان التي ألقوها بل هو في أسلوب الكتب السماوية والذكر.
ولقد ظهرت حكمة علّام الغيوب في ذلك فإن المشركين لمّا سمعوا القرآن ابتدروا