إلى الطعن في كونه منزّلا من عند الله بقولهم في الرسول : هو شاعر ، أي أن كلامه شعر حتى أفاقهم من غفلتهم عقلاؤهم مثل الوليد بن المغيرة ، وأنيس بن جنادة الغفاري ، وحتى قرعهم القرآن بهذه الآية : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ).
وبعد هذا فإن إقامة الشعر لا يخلو الشاعر فيها من أن يتصرف في ترتيب الكلام تارات بما لا تقضيه الفصاحة مثل ما وقع لبعض الشعراء من التعقيد اللفظي ، ومثل تقديم وتأخير على خلاف مقتضى الحال فيعتذر لوقوعه بعذر الضرورة الشعرية ، فإذا جاء القرآن شعرا قصّر في بعض المواضع عن إيفاء جميع مقتضى الحال حقّه. وسنذكر عند تفسير قوله تعالى : (وَما يَنْبَغِي لَهُ) وجوها ينطبق معظمها على ما أشار إليه قوله تعالى هنا : (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ). وقد قال ابن عطية : إن الضمير المجرور باللام في قوله : (وَما يَنْبَغِي لَهُ) يجوز أن يعود على القرآن كما سيأتي.
وقوله : (وَما يَنْبَغِي لَهُ) جملة معترضة بين الجملتين المتعاطفتين قصد منها اتباع نفي أن يكون القرآن الموحى به للنبي صلىاللهعليهوسلم شعرا بنفي أن يكون النبي صلىاللهعليهوسلم شاعرا فيما يقوله من غير ما أوحى به إليه أي فطر الله النبي صلىاللهعليهوسلم على النفرة بين ملكته الكلامية والملكة الشاعرية ، أي لم يجعل له ملكة أصحاب قرض الشعر لأنه أراد أن يقطع من نفوس المكذّبين دابر أن يكون النبي صلىاللهعليهوسلم شاعرا وأن يكون قرآنه شعرا ليتضح بهتانهم عند من له أدنى مسكة من تمييز للكلام وكثير ما هم بين العرب رجالهم وكثير من نسائهم غير زوج عبد الله بن رواحة ونظيراتها ، والواو اعتراضية.
وضمير (يَنْبَغِي) عائد إلى الشعر ، وضمير (لَهُ) يجوز أن يكون عائدا إلى ما عاد إليه ضمير الغائب في قوله : (عَلَّمْناهُ) وهو الظاهر. وجوّز ابن عطية أن يعود إلى القرآن الذي يتضمنه فعل (عَلَّمْناهُ) فجعل جملة (وَما يَنْبَغِي لَهُ) بمنزلة التعليل لجملة (وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ).
ومعنى (وَما يَنْبَغِي لَهُ) ما يتأتّى له الشعر ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) [مريم : ٩٢] تفصيل ذلك في سورة مريم ، وتقدم قريبا عند قوله : (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) [يس : ٤٠]. فأصل معنى (يَنْبَغِي) يستجيب للبغي ، أي الطلب ، وهو يشعر بالطلب الملحّ. ثم غلب في معنى يتأتّى ويستقيم فتنوسي منه معنى المطاوعة وصار (يَنْبَغِي) بمعنى يتأتّى يقال : لا ينبغي كذا ، أي لا يتأتى. قال الطيبي : روي عن الزمخشري أنه قال في «كتاب سيبويه» «كل فعل فيه علاج يأتي مطاوعه على