(وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ).
إن المقارنة بين «الحكم بما أنزل الله» و «إتباع الهوى» يبين لنا أن الذي يعرض بوجهه عن حكم الله تعالى ، سيسقط في وادي الهوى المرعب ، وقول الآية : (واحْذرهم أَنْ يَفْتِنُوكَ) تأكيد آخر ومكرر على اتباع أحكام الله تعالى ، والوقوف بوجه الوساوس وعدم الإعتراف بغيره ، وممّا لا شك فيه أنّ النّبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآله لم يكن ليفتتن بهم إطلاقاً بسبب تمتعه بمقام العصمة الرفيع ، إلّاأن التعبير أعلاه يُعدّ درساً لسائر النّاس ، لكي يحذروا مكائد الأعداء وألاعيبهم من أجل حرف المؤمنين وإبعادهم عن الإمتثال للاحكام الإلهيّة ومع الأخذ بنظر الاعتبار سبب نزول هذه الآية والّذي ذكره المفسرون ، فإنّ الآية الآنفة تتعلق بمسألة القضاء والفصل في الإختلافات والمنازعات ، وكلمة «بينهم» أيضاً تعبّر عن هذا المعنى ، ولكن من المسلّم به هو أنّ الفصل يجب أن يكون مستنداً إلى حكمٍ وقانون ، ومفهوم هذه الآية يشير إلى أن مستند القضاء والفصل يجب أن يكون ما أنزل الله فقط.
* * *
والآية الّتي تأتي بعد الآية السابقة مباشرة في القرآن الكريم ، تقول : (أَفَحُكْمَ الجَاهِليَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِّقَومٍ يُوقِنُونَ).
وهنا تصرح هذه الآية الكريمة بأنّ الأحكام غير الإلهيّة إنّما هي أحكام جاهلية ، تلك الأحكام النّابعة من الجهل وعدم المعرفة ، وأحياناً عن الهوى والوساوس الناجمة عن الجهل ، ولو تأملنا في هذه الآية جيداً ، لوجدنا أنّ هذا المعنى لا يختص فقط بعصر النّبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآله ونهضته في العصر الجاهلي للعرب ، بل إنّ كل حكم غير إلهي ـ وكما أشرنا إلى ذلك آنفاً ـ لا يمكن أن يكون منزّهاً من الجهل ، لأنّ علم الإنسان محدود يقيناً ، إذ إنّه لا يملك معرفةً كاملة بجميع خصائص وزوايا وجوده ، ولا يملك اطلاعاً كاملاً على أسرار الموجودات والحوادث الماضية والحالية والمستقبلية ، التي تلعب دوراً مؤثراً في نوعية