جريرة وارتكب كبيرة ، ثم لجأ إلى حرم الله ـ تعالى ـ لم يتناول ولم يطلب ، ولو لقي قاتل أبيه في الأشهر الحرم لم يتعرّض له ، وكان الرجل لو لقي الهدى مقلدا ـ وهو يأكل العصب (١) من الجوع ـ لم يعرض له ، ولم يقربه ؛ فإذا أراد البيت يقلّد قلادة من شعر ؛ فحرمته ومنعته من الناس حتى يأتي أهله (٢).
ويحتمل قوله ـ تعالى ـ : (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) ، أي : لا تستحلوا ما أشعركم الله حرمته ، وهو من الأعلام ، ويحتمل أن يكون أراد به مشاعر الحرام الذي ذكرنا.
وقال : لا تحلّوا الحرام ولا الشهر الحرام ، ولا الهدي ولا القلائد.
وهذه أمور كانت من قبل فنسخت بقوله ـ تعالى ـ : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ...) الآية [التوبة : ٥]. وعن الشعبي [أنه](٣) قال : لم ينسخ من المائدة غير هذه الآية ؛ نسخها : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا)(٤) [التوبة : ٢٨] ، وقوله : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ...) الآية [التوبة : ٥]. وقالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ : «إنها آخر ما أنزل ؛ فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه ، وما وجدتم فيها من حرام فحرموه» (٥).
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ) فهو (٦) هو كقوله ـ تعالى ـ : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) [البقرة : ٢١٧]
وقد ذكرنا أن الله ـ عزوجل ـ أطلق الحرم في الشهر الحرام بعد ما كان محظورا بقوله ـ تعالى ـ : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ).
وأما قوله : (وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ)(٧).
__________________
(١) أي : شجرة اللبلاب. ينظر المعجم الوسيط (٢ / ٦٠٣).
(٢) في الأصول : حواجز أبقاه الله بين الناس في الجاهلية ؛ أمانا لهم ، والله أعلم ولعلها جملة تفسيرية.
(٣) سقط من ب.
(٤) أخرجه الطبري (٩ / ٤٧٥) ، رقم (١٠٩٦٤) ، وعبد بن حميد وأبو داود في ناسخه وابن المنذر والنحاس كما في الدر المنثور (٢ / ٤٤٧).
(٥) أخرجه أحمد (٦ / ١٨٨) ، والنسائي في الكبرى (٦ / ٣٣٣) كتاب التفسير : باب قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) [المائدة : ٣] (١١١٣٨) ، والحاكم في المستدرك (٢ / ٣١١) ، والبيهقي (٧ / ١٧٢) من طريق معاوية بن صالح أبي الزاهرية حدير بن كريب ، عن جبير بن نفير قال : دخلت على عائشة ، فقالت لي : «هل تقرأ سورة المائدة؟ قلت : نعم. قالت : أما إنها آخر سورة نزلت ؛ فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه ، وما وجدتم فيها من حرام فحرموه». وصححه الحاكم ووافقه الذهبي ، وذكره السيوطي في الدر (٢ / ٤٤٦) وزاد نسبته إلى أبي عبيد في فضائله ، والنحاس في ناسخه ، وابن المنذر وابن مردويه.
(٦) في الأصول : وهو.
(٧) قال القرطبي (٦ / ٢٩) : لا يجوز بيع الهدى ولا هبته إذا قلّد أو أشعر ؛ لأنه قد وجب ، وإن مات ـ