أحدها : ما ذكر ـ عزوجل ـ البغض والعداوة ، بقوله : (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ (١) أَنْ تَعْتَدُوا) [المائدة : ٢] ، وقال : (عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا) [المائدة : ٨] ، وقال : (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً) [النساء : ١٣٥] أمرهم بالقيام بالشهادة ، وأخبر ألا يمنعكم الولاية والقرب القيام بالشهادة ، أو طمع غنى أو خوف فقر.
هذه الوجوه التي ذكرنا تمنع الناس القيام بالشهادة ، وتبعثهم على الجور والاعتداء ؛ فنهاهم الله ـ عزوجل ـ أن يحملهم بغض قوم ، أو عداوة أحد على الجور والاعتداء. أو تمنعهم الشفقة ، أو القرب ، أو طمع غنى أحد ، أو خوف فقر ـ القيام بالشهادة وما عليهم من الحق.
وأمر أن يجعلوه كله لله بقوله : (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ) [النساء : ١٣٥] ، فإذا كان كله لله ، قدر أن يعدل في الحكم ، وترك مجاوزة الحد الذي حد له ، وقدر على القيام بالشهادة ، وما ذكر ، وما يمنع شيء من ذلك القيام به ، من نحو ما ذكر : من البغض والعداوة ، والقرب والشفقة ، أو طمع الغنى وخوف الفقر ؛ إذا جعل الحكم لله عدل فيه ، ومنعه عن الجور فيه والاعتداء ، وكذلك الشهادة إذا جعلها لله قام بأدائها ، ولو على نفسه ، أو ما ذكر ، لم يمنعه شيء عن القيام بها.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) :
كأن البر هو اسم كل خير ، والتقوى : هي ترك كل شرّ.
(وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ)(٢).
ألا ترى أنه ذكر بإزاء البر : الإثم ، وبإزاء التقوى : العدوان ؛ فهذا يبين أن البرّ : اسم
__________________
(١) سقط من الأصول.
(٢) قال القاسمي (٦ / ٢٤) : من ثمرات الآية وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأنه لا يجوز إعانة متعد ولا عاص ؛ فيدخل في ذلك تكثير سواد الظلمة بوجه من قول أو فعل أو أخذ ولاية أو مساكنة.
وفي الإكليل : استدل المالكية بالآية على بطلان إجارة الإنسان نفسه لحمل خمر ونحوه ، وبيع العنب لعاصره خمرا ، والسلاح لمن يعصي به ، وأشباه ذلك. اه.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه : السياسة الشرعية : ولا يحل لرجل أن يكون عونا على ظلم ؛ فإن التعاون نوعان : نوع على البر والتقوى من الجهاد وإقامة الحدود واستيفاء الحقوق وإعطاء المستحقين ، فهذا ما أمر الله به ورسوله ، ومن أمسك عنه خشية أن يكون من أعوان الظلمة فقد ترك فرضا على الأعيان أو على الكفاية متوهّما أنه متورع ، وما أكثر ما يشتبه الجبن والفشل بالورع! إذ كل منهما كف وإمساك.