لكل خير ، والتقوى : هي الانتهاء عن كل شرّ.
ويجوز أن يكون ما ذكر في الآية الأولى وأمر به ، وهو قوله : (لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ ...) إلى قوله : (الْبَيْتَ الْحَرامَ) يقول : عاونوهم على ما يأتون به من ذلك ؛ فإنهم إلى البر يقصدون عند أنفسهم ، وإن لم يكن فعلهم برّا ؛ لعبادتهم غير الله تعالى.
وإنما أمروا بمعاونتهم ، وترك التعرض لهم ـ إن ثبت ما ذكر في القصة ـ : إذا أحرموا ، أو قلدوا ، أو قصدوا البيت الحرام في الوقت الذي جاز أن يعاهدوا فيه ؛ كما يجوز لنا معاهدة أهل الكتاب على ألا نعرض لكنائسهم (١) وبيعهم ، وإن كانوا يعصون الله فيها ؛ لأنهم يدينون بذلك ، ويقصدون به البرّ عند أنفسهم.
فلما أمر (٢) بنقض عهود مشركي العرب ، أمر بمنعهم من دخول المسجد ، وأن يقتلوا حيث وجدوا ، وإلى هذا المعنى ذهب أصحابنا ـ رحمهمالله ، والله أعلم ـ في فرقهم بين شهادة أهل الذمة على أمثالهم (٣) ، وشهادة فسّاق المسلمين ؛ لأن أهل الذمة متدينون
__________________
(١) في أ : لكتابهم.
(٢) في ب : أمروا.
(٣) يشترط إسلام الشاهد ؛ إذا كان المشهود عليه مسلما ؛ فلا تقبل شهادة الكافر على المسلم ؛ لأن الشهادة فيها معنى الولاية ، ولا ولاية للكافر على المسلم.
أما إذا كان المشهود عليه كافرا : فإسلام الشاهد ، هل هو شرط لقبول الشهادة عليه أو لا؟ ذهب الشافعي ومالك وابن أبي ليلى والأوزاعي وأبو ثور وأحمد في رواية عنه ـ إلى أن : شهادة الكفار بعضهم على بعض غير مقبولة.
وذهبت طائفة من أهل العلم إلى أن : شهادة بعضهم على بعض مقبولة ، لكنهم اختلفوا : فمنهم من قال : الكفر كله ملة واحدة ؛ فتقبل شهادة اليهودي على النصراني ، والنصراني على اليهودي ، وهذا قول حماد والثوري والبتي وأبي حنيفة وأصحابه.
وعن قتادة والحكم وأبي عبيد وإسحاق : أن شهادة كل ملة بعضها على بعض مقبولة ، ولا تقبل شهادة يهودي على نصراني.
واحتج المانعون بأن في قبول شهادتهم إكراما لهم ورفعا لمنزلتهم وقدرهم ، ورذيلة الكفر تنفي ذلك.
ورد هذا بأنه ليس في قبول شهادتهم على بعض تكريم لهم ولا رفع لأقدارهم ، وإنما هو دفع شرهم عن بعض ، وإيصال أهل الحقوق منهم بقول من يرضونه ، وهذا من تمام مصالحهم التي لا غنى لهم عنها.
واستدل القابلون بما يأتي :
بقول الله ـ تعالى ـ : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ)[الأنفال : ٧٣] ؛ فأثبت لهم الولاية على بعضهم ، وهي أعلى رتبة من الشهادة.
وبما ثبت في الصحيح : أن النبي صلىاللهعليهوسلم رجم يهوديين زنيا بشهادة أربعة منهم. ولعل الذي ذهب إلى أن شهادة اليهودي على مثله جائزة لا على النصراني ـ يستدل بقول الله ـ تعالى ـ : (وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ)[المائدة : ٦٤] ، ويرد هذا بأن العداوة الدينية غير مانعة من قبول ـ