أضأنا عقلنا ، أو طمسناه : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) (١) ، حكمنا أهواءنا ، أو اتبعناها : (وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ) (٢).
بيد أنّ الصّعوبة إذا ارتدت إلى الوراء على هذا النّحو لا تصبح ملغاة نهائيا ، لأنّه ، كلما ارتقينا في مراتب أعمالنا الجوانية يجب علينا أن نتوقف في كلّ خطوة لنسأل أنفسنا عما إذا كان هذا العمل إنسانيا محضا ، فهو إذن يتضمن حدا للفعل الإلهي ، أو هو من خلق الله ، فهو إذن لا يرجع إلى أي خطأ من جانبنا.
ولو أننا فهمنا جيدا موقف القرآن من مشكلة الإختيار الحرژ لوجدناه مناقضا لموقف «كانت» على خط مستقيم. فالقرآن مع مقابل حتمية «كانت» في نظام الظّواهر ـ إستقلال إرادتنا الكامل بالنسبة إلى أحداث الطّبيعة.
أمّا في النّظام الماهيّ المعقول [lordre ـ noumenal] ، فإنّ هذا الإستقلال على العكس سوف يفسح المجال لتبعية مزدوجة ، بل مثلثة ، للإرادة الإلهية. فإرادتنا فيما يتعلق بفاعليتها ـ لا تصدر عن مساعدة العناية الإلهية فحسب ، لكي تبلّغ جهودنا غايتها ، أو تقطعها عن آثارها. فالزوج الّذي يودع جرثومة ولده الحيوية لا يكمل له خلقه ، ولا ينفخ فيه الحياة : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ* أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ) (٣) ، والزّارع الّذي يجهز أرضه ، ويبذرها لا يفلق الحب ، ولا ينضره : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) (٤).
__________________
(١) المطففين : ١٤.
(٢) الأعراف : ١٧٦.
(٣) الواقعة : ٥٨ ـ ٥٩.
(٤) الواقعة : ٦٣ ـ ٦٤.