الحسية المتعاقبة في وجدان النفس.
وأما القضية المحسوسة بمعنى حكم العقل بمطابقة الصورة المحسوسة للواقع فالمطابقة بمعنى وجود أصل واقع ما وراء عالم الحس هي قضية بديهية واضحة لدى العقل في مستوى سائر بديهياته ، وأما المطابقة التفصيلية بين المحسوس والواقع فهي وان كان قد يحصل الجزم بها كثيراً بمعناه الاصولي ، ولكنه ليس يقينياً بالمعنى المنطقي ، أي ليس مضمون الحقانية لا على أساس البداهة ولا على اساس الاكتساب المنطقي ؛ لأن الجزم بالمطابقة ليس بديهياً ، وإلا للزم وقوع الخطأ في البديهيات لكثرة وقوع الخطأ في امثال ذلك الجزم ، كما انه ليس مكتسباً اكتساباً منطقياً برهانياً من البديهي ، وهكذا نعرف ان المقدار المضمون الحقانية انما هو اصل الواقع الموضوعي لا القضايا المحسوسة بمعنى المطابقة للواقع.
وأما القضايا التجريبية والحدسية التي تتفق في الجوهر وان اختلفت التجريبية عن الحدسية في وجود العمل من المجرب دون الحادس فهي جميعاً ليست مضمونة الحقانية ، وبالتالي ليست يقينية بحسب عرف كتاب البرهان ، فالانسان حين يستنتج ان شراب «السقمونيا» علة للاسهال بالتجربة كما يقولون ، لا بد له ان ينفي علية أي شيء آخر اتفق وجوده في تلك الحالات ، وبعد ذلك وعلى اساس مبدأ العلية الاولى مثلا يستنتج ان الشراب الخاص هو العلة لاستحالة وجود المعلول بدون العلة ، ولكن من اين له الجزم بنفي علية ما عدا الشراب؟ ان طريقه الى ذلك هو محاولة ملاحظة اثر الشراب في حال عدم وجود أي شيء تحتمل عليته ، ومن المعلوم أن الجزم بذلك على هذا الاساس ، والقطع بانه لم يبقى شيء مما يحتمل عليته موجوداً حال الشراب ليس من البديهيات ، ولهذا قد يحصل الجزم ثم يظهر الخطأ بعد ذلك ، كما يتفق كثيراً في العلوم الطبيعية ، ولا هو نظري مكتسب بالبرهان من المبادئ الأولى اذ لا برهان من تلك المبادئ على ذلك.
وسوف نعرف فيما بعد ان هذا الجزم ينتسب الى نوع ثالث غير الأولي والمكتسب ، وهو على أي حال غير مضمون الحقانية لا على اساس البداهة لأنه ليس بديهياً ولا على اساس المنطق لأنه ليس مكتسباً بالبرهان.