ولا يخفى : أن الإشكال إنما يبتني على كون الجهالة (١) بمعنى عدم العلم ، مع أن
______________________________________________________
فيقدم عموم التعليل على المفهوم ؛ لأن دلالته على عدم الحجية يكون بالمنطوق ، ومن المعلوم : أن المنطوق أقوى من المفهوم فيقدم عليه.
قوله : «لأن التعليل بإصابة القوم ...» الخ تعليل لقوله : «يشكل» ، وتقريب للإشكال ، وقد عرفت توضيح ذلك ، فلا حاجة إلى التكرار والإعادة.
(١) غرض المصنف من هذا الكلام : هو دفع الإشكال المذكور ، وإثبات المفهوم للآية ، وتوضيح ذلك يتوقف على مقدمة وهي : أن الجهالة تارة : تكون بمعنى الجهل المقابل للعلم ، وأخرى : تكون بمعنى السفاهة التي هي عبارة عن فعل ما لا ينبغي صدوره من العاقل.
إذا عرفت هذه المقدمة فاعلم : أن مبنى الإشكال المذكور على أن تكون الجهالة المذكورة في الآية بمعنى : عدم العلم كما هو مقتضى مادة الاشتقاق لغة كالجهل ؛ إذ يكون عدم العلم مشتركا بين خبر العادل والفاسق. وأما إذا كانت بمعنى السفاهة : فلا يرد الإشكال ؛ لاختصاص التعليل حينئذ بخبر الفاسق ؛ لأنه الذي يكون الاعتماد عليه بدون تبين عملا سفهيا ؛ لاحتمال تعمده الكذب ، وهذا بخلاف خبر العادل : فإن الاعتماد عليه لا يكون سفهيا ؛ لعدم احتمال تعمده للكذب ؛ بل نعلم بعدم تعمده له ، فالركون إليه بلا تبين لا يكون سفهيا.
وكيف كان ؛ فالجهالة في الآية وإن كانت ظاهرة بمعنى : عدم العلم ؛ لأنها من الجهل المقابل للعلم إلا إنها في الآية لم تكن بمعنى الجهل ؛ بل تكون بمعنى : السفاهة ، وهي فعل ما لا يجوز فعله عند العقلاء ، فالجهالة حقيقة عرفا في السفاهة ، ومن المعلوم : تقدم المعنى العرفي على اللغوي عند الدوران بينهما ، والشاهد على كون المراد من الجهالة السفاهة هو : قوله تعالى : (فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) ؛ لأن الوقوع في الندم إنما يكون في العمل عن سفاهة لا في العمل عن جهل ، فإن أعمال الناس يوميا يكون أكثرها عن جهل ولا ندامة فيها ، فالتعليل لا يشمل خبر العادل ؛ لأن العمل بخبره ليس عن سفاهة ، فيرتفع التعارض بين المفهوم والتعليل.
فالمتحصل : أن مرجع مفاد الآية إلى أن العمل بخبر الفاسق من دون تبين يكون من أفعال السفهاء ، فيجب التبين فيه ؛ لئلا يكون العمل به عن سفاهة ، فيكون المفهوم : أن العمل بخبر العادل لا يعد عند العقلاء عملا عن السفاهة ؛ وإن لم يتبين أصلا ، فيكون حجة من دون التبين بمقتضى المفهوم.