وبصّره بعيوب نفسه ، وما زهد عبد في الدنيا إلاّ أثبت اللّه الحكمة في قلبه ، وأنطق بها لسانه ، وبصّره عيوب الدنيا وداءها ودواءها ، وإذا رأيت أخاك قد زهد في الدنيا ، فاستمع منه فإنّه يلقى [ إليه (١) ] الحكمة» .
فقلت : من أزهد الناس؟
قال : «من لم ينس المقابر والبلى ، وترك فضل زينة الدنيا ، وآثر ما يبقى على ما يفنى ، ولم يعدّ غداً من أيّامه ، وعدّ نفسه في الموتى .
يا أبا ذرّ ، حبّ المال والشرف أذهب لدين الرجل من ذئبين ضارّيين في زرب (٢) الغنم فأغارا فيها حتّى أصبحا فماذا أبقيا منها؟
يا أبا ذرّ ، الدنيا مشغلة للقلوب والأبدان .
يا أبا ذرّ إنّي دعوت اللّه جلّ ثناؤه أن يجعل رزق من أحبّني الكفاف ، وأن يعطي من يبغضني كثرة المال والولد .
يا أبا ذرّ ، طوبى للزاهدين في الدنيا ، الراغبين في الآخرة ، الذين اتّخذوا أرض اللّه بساطاً ، وترابها فراشاً ، وماءها طيباً ، واتّخذوا كتاب اللّه شعاراً ودعاءه دثاراً ، يقرضون الدنيا قرضاً .
يا أبا ذرّ ، حرث الآخرة العمل الصالح ، وحرث الدنيا المال والبنون .
يا أبا ذرّ ، إذا دخل النور القلب انفسحَ القلب واستوسع» .
قلت : فما علامة ذلك؟
قال : «الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل حلول الفوت .
__________________
(١) أثبتناها من المصدر .
(٢) في «ن» ساقطة ، وفي «م» : سرب . والزرب والزريبة : حظيرة للغنم من خشب .
انظر : الصحاح ١ : ١٤٢ ـ زرب ـ .