التبادر لا عبرة به في شيء.
لا يقال : إنّما لا عبرة بذلك التبادر في إثبات الوضع ، فلم لا يجوز أن يعتبر كاشفا عن المراد وهو كاف في اعتبار القصد في المأمور به ، لأنّ الكشف عن الإرادة مبنيّ على تبيّن كون القرينة ممّا لاحظها المتكلّم وهو في المقام مقطوع بعدمها ، لما قرّرناه من العلم الوجداني بأنّ الملحوظ في نظر الآمرين ليس في أمثال المقام إلاّ الطبيعة ، ولازمه الاجتزاء بما صدق عليه تلك الطبيعة ، ولو لاحظها مقيّدة ببعض الاعتبارات فالقصد ليس منها ، ولو سلّم عدم القطع فلا أقلّ من الشكّ والأصل سليم عن المعارض.
فإن قلت : قضيّة ذلك هدم قاعدتهم المقرّرة في محلّه من اشتراط العمل بالمطلقات بتواطئ الأفراد وعدم انصرافها ، إذ ما من مطلق منصرف إلى بعض الأفراد إلاّ وهذا الكلام جار فيه وهو كما ترى.
قلت : الانصراف إنّما يؤثّر إذا نشأ عن غلبة الإطلاق ، وهو في المقام ناش عن غلبة الوجود ، وإلاّ فالغالب من حيث الإطلاق إنّما هو إرادة نفس الطبيعة معرّاة عن وصف القصد.
وثالثها : أنّ المقصود بالتكليف إنّما هو تأثير المكلّف في المكلّف به وهو إنّما يحصل إمّا يبعث المكلّف غيره على التأثير وأمره إيّاه بإيجاد المكلّف به ، كأمر السلطان بعض أمرائه بفتح بلد ، حيث إنّ تأثيره إنّما هو بإرسال العسكر لفتحه ، أو بالمباشرة النفسيّة كما في أمر السيّد عبده بالسقي ، ولمّا كانت التكاليف الشرعيّة متوجّهة إلى الإنسان الّذي يعبّر عنه بالنفس ـ أي النفس الناطقة ـ الّتي لكونها من المجرّدات الّتي لا يصدر منها ما هو من لوازم المادّيّات لا يعقل منها تأثير إلاّ بالبعث ، وظاهر أنّ المبعوث عن قبل النفس لا يكون إلاّ الأعضاء والجوارح ، فلابدّ في تأثيرها كونها باعثة لها آمرة إيّاها بإتيان المكلّف به ، ومن المعلوم أنّ البعث لا يمكن من الباعث إلاّ مع قصد ما يبعث لأن يؤتى به ، كما أنّ الأمر من الآمر لا يعقل إلاّ مع قصد المأمور به.
والجواب : أنّ خطابات الشارع المتضمّنة لأوامره ونواهيه مبنيّة على ما يساعده العرف ويقتضيه العادة لا على ما ذكر من الشبهات السوفسطائيّة ، ولقد تقدّم أنّ المنساق من الأمر عرفا ليس إلاّ طلب ذات الفعل ، وانفهام ما زاد عليها مقصور على الدلالة الخارجيّة ، مع أنّ ما ذكر في الاستدلال من كون المكلّف في الشرعيّات هو النفس الإنسانيّة الّتي تأثيرها ليس إلاّ بالبعث ليكون من باب التسبيب بمكان من المنع ، نظرا إلى حكم العرف والعادة