والثالث : التّحقيق ، ذكره الكوفيّون والزجّاجي ، وأنشدوا عليه [من الوافر] :
١٠٤ ـ فأصبح بطن مكّة مقشعرّا |
|
كأنّ الأرض ليس بها هشام (١) |
أي : لأنّ الأرض ؛ إذ لا يكون تشبيها ، لأنه ليس في الأرض حقيقة.
فإن قيل : فإن كانت للتحقيق فمن أين جاء معنى التعليل؟
قلت : من جهة أن الكلام معها في المعنى جواب عن سؤال عن العلّة مقدّر ، ومثله : (اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) [الحج : ١].
وأجيب بأمور ، أحدها : أن المراد بالظرفيّة الكون في بطنها ، لا الكون على ظهرها ، فالمعنى أنه كان ينبغي أن لا يقشعرّ بطن مكة مع دفن هشام فيه لأنه له كالغيث.
الثاني : أنه يحتمل أن هشاما قد خلّف من يسدّ مسدّه ، فكأنه لم يمت.
الثالث : أن الكاف للتعليل ، و «أنّ» للتوكيد ، فهما كلمتان لا كلمة ، ونظيره : (وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) [القصص : ٨٢] ، أي : أعجب لعدم فلاح الكافرين.
والرابع : التقريب ، قاله الكوفيون ، وحملوا عليه «كأنك بالشتاء مقبل ، وكأنك بالفرج آت ، وكأنك بالدّنيا لم تكن وبالآخرة لم تزل» وقول الحريري [من الهزج] :
١٠٥ ـ كأنّي بك تنحطّ |
|
[إلى اللحد وتنغط](٢) |
وقد اختلف في إعراب ذلك ؛ فقال الفارسي : الكاف حرف خطاب ، والباء زائدة في اسم «كأنّ». وقال بعضهم : الكاف اسم «كأنّ» ، وفي المثال الأول حذف مضاف ، أي كأن زمانك مقبل بالشّتاء ، ولا حذف في «كأنك بالدنيا لم تكن» بل الجملة الفعليّة خبر ، والباء بمعنى «في» ، وهي متعلّقة بـ «تكن» ، وفاعل «تكن» ضمير المخاطب. وقال ابن عصفور : الكاف والياء في «كأنك» و «كأنّي» زائدتان كافّتان لـ «كأنّ» عن العمل كما تكفّها «ما» ، والباء زائدة في المبتدأ. وقال ابن عمرون : المتّصل بـ «كأنّ» اسمها ، والظرف خبرها ، والجملة بعده حال ، بدليل قولهم : «كأنّك بالشّمس وقد طلعت» بالواو ، ورواية
__________________
(١) البيت من البحر الوافر ، وهو للحارث بن خالد في ديوانه ص ٩٣ ، والاشتقاق ص ١٠١ ، وبلا نسبة في الدرر ٢ / ١٦٣ ، وفي الجنى الداني ص ٥٧١ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٥١٥ ، ولسان العرب ١٢ / ٤٦١ مادة (قثم).
(٢) البيت من البحر الهزج ، انظر : خلاصته الأثر ٤ / ٢٥٠.