الثاني من أوجه «لا» : أن تكون موضوعة لطلب التّرك ، وتختصّ بالدخول على المضارع ، وتقتضي جزمه واستقباله ، سواء كان المطلوب منه مخاطبا ، نحو : (لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) [الممتحنة : ١] ، أو غائبا ، نحو : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ) [آل عمران : ٢٨] ، أو متكلّما ، نحو : «لا أرينّك ههنا» وقوله [من البسيط] :
٢١٠ ـ لا أعرفن ربربا حورا مدامعها |
|
[مردّفات على أعجاز أكوار](١) |
وهذا النوع مما أقيم فيه المسبّب مقام السبب ، والأصل لا تكن ههنا فأراك ، ومثله في الأمر (وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً) [التوبة : ١٢٣] ، أي : وأغلظوا عليهم ليجدوا ذلك ؛ وإنما عدل إلى الأمر بالوجدان تنبيها على أنه المقصود بالذات ، وأما الإغلاظ فلم يقصد لذاته ، بل ليجدوه ؛ وعكسه (لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ) [الأعراف : ٢٧] ، أي : لا تفتتنوا بفتنة الشيطان.
واختلف في «لا» من قوله تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) [الأنفال : ٢٥] على قولين :
أحدهما : أنها ناهية ، فتكون من هذا ، والأصل لا تتعرّضوا للفتنة فتصيبكم ، ثم عدل عن النهي عن التعرّض إلى النهي عن الإصابة ، لأنّ الإصابة مسببة عن التعرض ، وأسند هذا المسبب إلى فاعله ، وعلى هذا فالإصابة خاصة بالمتعرّضين ، وتوكيد الفعل بالنون واضح لاقترانه بحرف الطّلب مثل : (وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً) [إبراهيم : ٤٢] ، ولكن وقوع الطلب صفة للنكرة ممتنع ؛ فوجب إضمار القول ، أي واتقوا فتنة مقولا فيها ذلك ، كما قيل في قوله [من الرجز] :
٢١١ ـ حتّى إذا جنّ الظّلام واختلط |
|
جاءوا بمذق هل رأيت الذّئب قط (٢) |
الثاني : أنها نافية ، واختلف القائلون بذلك على قولين : أحدهما : أن الجملة صفة لفتنة ، ولا حاجة إلى إضمار قول ، لأنّ الجملة خبريّة ، وعلى هذا فيكون دخول النون شاذا ، مثله في قوله [من الطويل] :
٢١٢ ـ فلا الجارة الدّنيا بها تلحينّها |
|
ولا الضّيف عنها إن أناخ محوّل (٣) |
__________________
(١) البيت من البسيط ، وهو بلا نسبة في شرح الأشموني ٣ / ٥٧٣.
(٢) البيت من الرجز ، وهو للعجاج في ملحق ديوانه ٢ / ٣٠٤ ، وخزانة الأدب ٢ / ١٠٩ ، وبلا نسبة في الإنصاف ١ / ١١٥ ، وأوضح المسالك ٣ / ٣١٠.
(٣) البيت من الطويل ، وهو للنمر بن تولب في ديوانه ص ٣٨٣ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٦٢٨ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٣٤٢ ، وبلا نسبة في شرح الأشموني ٢ / ٤٩٨.