الرابع : قول محمد بن مسعود الزكي في كتابه البديع ـ وهو كتاب خالف فيه أقوال النحويّين في أمور كثيرة ـ : إن «الذي» و «أن» المصدريّة يتقارضان ، فيقع «الذي» مصدرية ، كقوله [من الطويل] :
٧١٠ ـ أتقرح أكباد المحبّين كالّذي |
|
أرى كبدي من حبّ ميّة يقرح؟ (١) |
وتقع «أن» بمعنى «الذي» ، كقولهم : «زيد أعقل من أن يكذب» ، أي : من الذي يكذب ، ا ه.
فأما وقوع الذي مصدريّة فقال به يونس والفرّاء والفارسيّ ، وارتضاه ابن خروف وابن مالك ، وجعلوا منه (ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبادَهُ) [الشورى : ٢٣] ، (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) [التوبة : ٦٩].
وأما عكسه فلم أعرف له قائلا ، والذي جرّأه عليه إشكال هذا الكلام ، فإن ظاهره تفضيل «زيد» في العقل على الكذب ، وهذا لا معنى له ، ونظائر هذا التّركيب كثيرة مشهورة الاستعمال ، وقلّ من يتنبّه لإشكالها ؛ وظهر لي فيها توجيهان :
أحدهما : أن يكون في الكلام تأويل على تأويل ، فيؤوّل «أن» والفعل بالمصدر ، ويؤوّل المصدر بالوصف ، فيؤوّل إلى المعنى الذي أراده ولكن بتوجيه يقبله العلماء. ألا ترى أنه قيل في قوله تعالى : (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى) [يونس : ٣٧] ، إن التقدير : ما كان افتراء ، ومعنى هذا ما كان مفترى : وقال أبو الحسن في قوله تعالى : (ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا) [المجادلة : ٣] : إن المعنى ثم يعودون للقول ، والقول في تأويل المقول : أي : يعودون للمقول فيهن لفظ الظهار ، وذلك هو الموافق لقول جمهور العلماء : إنّ العود الموجب للكفارة العود إلى المرأة لا العود إلى القول نفسه كما يقول أهل الظاهر ، وبعد فهذا الوجه عندي ضعيف ؛ لأن التفضيل على الناقص لا فضل فيه ، وعليه قوله [من الطويل]:
٧١١ ـ إذا أنت فضّلت امرأ ذا براعة |
|
على ناقص كان المديح من النّقص (٢) |
التوجيه الثاني : أن «أعقل» ضمن معنى «أبعد» ، فمعنى المثال : زيد أبعد الناس من الكذب لفضله من غيره ، فـ «من» المذكورة ليست الجارّة للمفضول ، بل متعلّقة ب
__________________
(١) البيت من الطويل ، وهو لجميل بثينة في ديوانه ص ٤٦ ، وبلا نسبة الأشباه والنظائر ١ / ٣٣٨.
(٢) البيت من البحر الطويل ، ولم أجده.