بوسط بلاد الإفرنج ، فلما جاوز ذلك المحل ـ وهو آخذ في التحريق والتخريب والغارات والسبي يمينا وشمالا ـ لم يجسر أحد من الإفرنج على لقائه ، حتى أقفرت البلاد مسافة أيام ، ثم عاد فوجد الإفرنج قد استجاشوا من وراءهم ، وضبطوا ذلك المدخل الضيق الذي بين جبلين ، وكان الوقت شتاء ، فلما رأى ما فعلوه رجع واختار منزلا من بلادهم أناخ به فيمن معه من العساكر ، وتقدم ببناء الدور والمنازل ، وبجمع آلات الحرث ونحوها ، وبث سراياه فسبت وغنمت ، فاسترق الصّغار ، وضرب أعناق الكبار ، وألقى جثثهم حتى سدّ بها المدخل الذي من جهته ، وصارت سراياه تخرج فلا تجد إلا بلدا خرابا ، فلما طال البلاء على العدو أرسلوا إليه في طلب الصلح ، وأن يخرج بغير أسرى ولا غنائم ، فامتنع من ذلك ، فلم تزل رسلهم تتردد إليه حتى سألوه أن يخرج بغنائمه وأسراه ، فأجابهم : إن أصحابي أبوا أن يخرجوا ، وقالوا : إنا لا نكاد نصل إلى بلادنا إلا وقد جاء وقت الغزوة الأخرى ، فنقعد ههنا إلى وقت الغزاة ، فإذا غزونا عدنا ، فما زال الإفرنج يسألونه إلى أن قرر عليهم أن يحملوا على دوابهم ما معه من الغنائم والسبي ، وأن يمدّوه بالميرة حتى يصل إلى بلاده ، وأن ينحّوا جيف القتلى عن طريقه (١) بأنفسهم ، ففعلوا ذلك كله ، وانصرف.
ولعمري إن هذا لعز ما وراءه مطمح ، ونصر لا يكاد الزمان يجود بمثله ويسمح ، خصوصا إزالتهم جيف قتلاهم من الطريق ، وغصصهم (٢) في شرب ذلك بالريق.
ومن مآثره التي هي في جبين عصره غرة ، ولعين دهره قرّة ، أنه لما ختن أولاده ختن معهم من أولاد أهل دولته خمسمائة صبي ، ومن أولاد الضعفاء عدد لا يحصر (٣) ، فبلغت النفقة عليهم في هذا الإعذار ، خمسمائة ألف دينار ، وهذه مكرمة مخلّدة ، ومنه مقلدة ، فالله سبحانه يجازيه عن ذلك أفضل الجزاء! ويجعل للمسلمين في فقد مثله أحسن العزاء!.
ومن مناقبه التي لم تتفق لغيره من الملوك في غالب الظنّ ، أن أكثر جنده من سبيه على ما حققه بعض المؤرخين ، وذلك غاية المنح من الله والمنّ.
ومن أخباره الدالة على إقبال أمره وخيبة عدوّه وإدباره ، أنه ما عاد قط من غزوة إلا استعدّ لأخرى ، ولم تهزم له قط راية مع كثرة غزواته شاتية وصائفة (٤) وكفاه ذلك فخرا.
__________________
(١) ينحون : يبعدون.
(٢) في ه : وغصّهم.
(٣) في ب ، ه : لا ينحصر.
(٤) الغزوة الشاتية أي في الشتاء. والصائفة : أي في الصيف.