وكان يحيى بن يحيى روى الموطأ بقرطبة عن زياد بن عبد الرحمن اللخميّ المعروف بشبطون ، وسمع من يحيى بن مضر القيسي الأندلسي ، ثم ارتحل إلى المشرق وهو ابن ثمان وعشرين سنة ، فسمع من مالك بن أنس الموطأ غير أبواب في كتاب الاعتكاف ، شكّ في سماعها ، فأثبت روايته فيها عن زياد ، وذلك ما يدلّ على ورعه.
وسمع بمصر من اللّيث بن سعد ، وبمكة من سفيان بن عيينة ، وتفقه بالمدنيين والمصريين كعبد الله بن وهب وعبد الرحمن بن القاسم العتقي (١) ، وسمع منهما ، وهما من أكابر أصحاب مالك ، بعد انتفاعه بمالك وملازمته له.
وانتهت إليه الرياسة بالأندلس ، وبه اشتهر مذهب مالك في تلك الديار ، وتفقه به جماعة لا يحصون عددا ، وروى عنه خلق كثير ، وأشهر رواة الموطأ وأحسنهم رواية يحيى المذكور ، وكان ـ مع أمانته ودينه ـ معظّما عند الأمراء ، يكنى عندهم ، عفيفا عن الولايات ، متنزها ، جلت رتبته عن القضاء ، وكان أعلى من القضاة قدرا عند ولاة الأمر بالأندلس لزهده في القضاء وامتناعه.
قال الحافظ ابن حزم : مذهبان انتشرا في بدء أمرهما بالرياسة والسلطان : مذهب أبي حنيفة ، فإنه لما ولي القضاء أبو يوسف كانت القضاة من قبله من أقصى المشرق إلى أقصى عمل إفريقية ، فكان لا يولي إلا أصحابه والمنتسبين لمذهبه ، ومذهب مالك عندنا بالأندلس ، فإن يحيى بن يحيى كان مكينا عند السلطان مقبول القول في القضاء ، وكان لا يلي قاض في أقطار بلاد الأندلس إلا بمشورته واختياره ، ولا يشير إلا بأصحابه ومن كان على مذهبه ، والناس سراع إلى الدنيا ، فأقبلوا على ما يرجون بلوغ أغراضهم به ، على أن يحيى لم يل قضاء قط ، ولا أجاب إليه ، وكان ذلك زائدا في جلالته عندهم ، وداعيا إلى قبول رأيه لديهم ، انتهى.
وذكرنا في غير هذا الموضع قولا آخر في سبب انتشار مذهب مالك بالأندلس ، والله سبحانه أعلم بحقيقة الأمر.
وقال ابن أبي الفياض : جمع الأمير عبد الرحمن بن الحكم الفقهاء في قصره ، وكان وقع على جارية يحبها في رمضان ، ثم ندم أشدّ ندم ، فسألهم عن التوبة والكفارة ، فقال يحيى : تكفر بصوم شهرين متتابعين ، فلما بادر يحيى بهذه الفتيا سكت الفقهاء حتى خرجوا ، فقال
__________________
(١) هو أبو عبد الله عبد الرحمن بن القاسم بن خالد العتقي ، الفقيه المالكي ، جمع بين الزهد والعلم ، وصحب مالكا عشرين سنة وهو صاحب «المدوّنة» في المذهب المالكي. توفي سنة ١٩١ ه في مصر (وفيات الأعيان ج ٣ ص ١٢٩).