في النهر الراجع ، فذهب بها الماء إلى ناحية الحريم من غير أن يقرب الخدم تلك الناحية ، فعلمت السر ، وإن هذا لعجيب ، انتهى بمعناه.
وقال في «قانون التأويل» : ورد علينا ذانشمند (١) ـ يعني الغزالي ـ فنزل برباط أبي سعد بإزاء المدرسة النظامية ، معرضا عن الدنيا ، مقبلا على الله تعالى ، فمشينا إليه ، وعرضنا أمنيتنا عليه ، وقلت له : أنت ضالّتنا التي كنا ننشد ، وإمامنا الذي به نسترشد ، فلقينا لقاء المعرفة ، وشاهدنا منه ما كان فوق الصفة ، وتحققنا أن الذي نقل إلينا من أن الخبر على الغائب فوق المشاهدة ليس على العموم ولو رآه عليّ بن العباس لما قال (٢) : [المتقارب]
إذا ما مدحت امرا غائبا |
|
فلا تغل في مدحه واقصد |
فإنّك إن تغل تغل الظّنو |
|
ن فيه إلى الأمد الأبعد |
فيصغر من حيث عظّمته |
|
لفضل المغيب على المشهد |
وكنت نقلت من المطمح في حقه ما صورته : الفقيه الحافظ أبو بكر بن العربي (٣) علم الأعلام الطاهر الأثواب ، الباهر الألباب ، الذي أنسى ذكاء إياس (٤) ، وترك التقليد للقياس ، وأنتج الفرع من الأصل ، وغدا في يد (٥) الإسلام أمضى من النّصل ، سقى الله تعالى به الأندلس بعدما أجدبت من المعارف ، ومد عليها منه الظلّ الوارف ، وكساها رونق نبله ، وسقاها ريّق وبله ، وكان أبوه أبو محمد بإشبيلية بدرا في فلكها ، وصدرا في مجلس ملكها ، واصطفاه معتمد بني عبّاد ، اصطفاء المأمون لابن أبي دواد (٦) ، وولاه الولايات الشريفة ، وبوّأه المراتب المنيفة ، فلما أقفرت حمص من ملكهم وخلت ، وألقتهم منها وتخلّت ، رحل به إلى المشرق ، وحل فيه محل الخائف الفرق ، فجال في أكنافه ، وأجال قداح الرجاء في استقبال العزو استئنافه ، فلم يسترد ذاهبا ، ولم يجد كمعتمده باذلا له وواهبا ، فعاد إلى الرواية والسماع ، وما استفاد من آمال تلك الأطماع ، وأبو بكر إذ ذاك في ثرى الذكاء قضيب ما دوّح (٧) ، وفي روض الشباب زهر ما صوّح (٨) ، فألزمه مجالس العلم رائحا وغاديا ، ولازمه سائقا إليها وحاديا ، حتى استقرت
__________________
(١) في ب : دانشمند ، وهو الحكيم العلامة.
(٢) علي بن عباس : هو الشاعر المعروف ، ابن الرومي.
(٣) الفقيه الحافظ أبو بكر بن العربي : العبارة غير موجودة في ب.
(٤) إياس : هو إياس بن معاوية الذي كان يضرب فيه المثل في الذكاء.
(٥) يد : سقطت من ب ، وهي موجودة في المطمح.
(٦) المأمون : هو ابن هارون الرشيد. وابن أبي دؤاد : القاضي أحمد بن أبي دؤاد.
(٧) ما دوّح : أي لم يصر دوحة بعد ، والدوحة : الشجرة العظيمة الممتدة الوارفة الظلال.
(٨) صوّح : ذبل وذوى.