ومن فوائد ابن العربي رحمه الله تعالى أنه قال : كنت بمجلس الوزير العادل أبي منصور ابن جهير على رتبة بيناها في كتاب «الرحلة ، للترغيب في الملة» فقرأ القارئ (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) [الأحزاب : ٤٤] وكنت في الصف الثاني من الحلقة بظهر أبي الوفاء علي بن عقيل إمام الحنبلية بمدينة السلام (١) ، وكان معتزلي الأصول ، فلما سمعت الآية قلت لصاحب لي كان يجلس على يساري : هذه الآية دليل على رؤية الله في الآخرة : فإن العرب لا تقول : «لقيت فلانا» إلا إذا رأته ، فصرف وجهه أبو الوفاء مسرعا إلينا ، وقال ينتصر لمذهب الاعتزال في أن الله تعالى لا يرى في الآخرة : فقد قال الله تعالى : (فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ) [التوبة : ٧٧] وعندك أن المنافقين لا يرون الله تعالى في الآخرة ، وقد شرحنا وجه الآية في المشكلين ، وتقدير الآية : فأعقبهم هو نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه ، فيحتمل ضمير يلقونه أن يعود إلى ضمير الفاعل في (أعقبهم) المقدر بقولنا هو ، ويحتمل أن يعود إلى النفاق مجازا على تقدير الجزاء ، انتهى.
ومنها ما نقله عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «لا يقل أحدكم انصرفنا من الصلاة» فإن قوما قيل فيهم (ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) [التوبة : ١٢٧] وقد أنبأنا (٢) محمد بن عبد الملك القيسي الواعظ ، أنبأنا أبو الفضل الجوهري سماعا منه : كنا في جنازة فقال المنذر بها : انصرفوا رحمكم الله تعالى ، فقال : لا يقل أحدكم انصرفوا فإن الله تعالى قال في قوم ذمهم : (ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) [التوبة : ١٢٧] ولكن قولوا : انقلبوا رحمكم الله ، فإن الله تعالى قال في قوم مدحهم : (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) [آل عمران : ١٧٤] انتهى.
ومنها ، وقد ذكر الخلاف في شاهد يوسف ، ما صورته : فإذا قلنا إنه القميص ، فكان يصح من جهة اللغة أن يخبر عن حاله بتقدم مقاله ، فإن لسان الحال أبلغ من لسان المقال في بعض الأمور ، وقد تضيف العرب الكلام إلى الجمادات بما تخبر عنه بما عليها من الصفات ، ومن أحلاه قول بعضهم : قال الحائط للوتد : لم تشقّني؟ قال : سل من يدقني ، ما يتركني ورائي (٣) ، هذا الذي ورائي ، لكن قوله تعالى بعد ذلك : (مِنْ أَهْلِها) [يوسف : ٢٦] في صفة
__________________
(١) علي بن عقيل بن محمد بن عقيل البغدادي الظفري ، أبو الوفاء ، ويعرف بابن عقيل ، عالم العراق وشيخ الحنابلة ببغداد في وقته. كان قوي الحجة ، اشتغل بمذهب المعتزلة في حداثته ، وكان يعظم الحلاج فأراد الحنابلة قتله ، فاستجار بباب المراتب عدة سنين ، فتمكن من الظهور. له تصانيف أهمها : كتاب الفنون وكتاب الواضح في الأصول ، والفصول ، والرد على الأشاعرة. (الأعلام للزركلي ج ٥ ص ١٢٩).
(٢) في ب : وقد أخبرنا.
(٣) ورائي : أي ورأيي.