لأشغال الموحدين أبا العلاء (١) إدريس بن علي بن أبي العلاء بن جامع ، فاشتمل علي ، وأولاني من البر ما قيّدني وأمال قلبي إليه ، مع تأكيد ما بينه وبين ابن عمي من الصحبة ، فلم يزل ينهض بي ، ويرفع أمداحي للملك ، ويوصّل إليه رسائلي ، منبّها على ذلك ، مرشحا ، إلى أن قبض الملك على كاتب عسكره ، وكان يقرأ بين يديه كتب المظالم ، فاحتيج إلى من يخلفه في ذلك ، فنبه الوزير علي ، وارتهن فيّ ، مع أني كنت من كتّاب الملك ، فقلدني قراءة المظالم المذكورة ، وسفر لي الوزير عنده في دار الكاتب المؤخر ، فأنعم بها ، فوجد الوشاة مكانا متسعا للقول ، فقالوا وزوروا من الأقاويل المختلفة ما مال بها حيث مالوا ، وظهر منه مخايل التغيير ، فجعلت أداريه وأستعطفه ، فلم ينفع فيه قليل ولا كثير ، إلى أن سعى في تأخير والدي عن الكتب للأمير الأسعد أبي يحيى ابن ملك إفريقية ، ثم سعى في تأخيري ، فأخرت عن الكتابة وعن قراءة (٢) المظالم ، فانفردت بالكتابة للوزير المذكور ، وفوض إليّ جميع أموره ، وأولاني من التأنيس ما أنساني تلك الوحشة ، ومن العز ما أنقذني من تلك الذلة. [بحر الطويل]
فرد عليّ العيش بعد ذهابه |
|
وآنسني بعد انفرادي من الأهل |
وقالوا (٣) إذا ما الوبل فاتك فاقتنع |
|
بما قد تسنّى عندك الآن من طلّ(٤) |
ووالله ما نعماه طلّ وإنما |
|
تأدّبه غيث يجود على الكل |
رآني أظمأ في الهجيرة ضاحيا |
|
فرق وآواني إلى الماء والظل |
ولم أزل عنده في أسرّ حال ما لها تكدير إلا ما يبلغني من أن ابن عمي لا يزال يسعى في حقي بما أخشى مغبّته ، وخفت أن يطول ذلك ، فيسمع منه ، ولا ينفع دفاع الوزير المذكور عني ، فرغبت له في أن يرفع للملك أني راغب في السّراح إلى المشرق برسم الحج :
[بحر المتقارب]
ومن بلّه الغيث في بطن واد |
|
وبات فلا يأمننّ السيولا |
فلم يسعفني في ذلك ، ولامني على تخوّفي ، وقلة ثقتي بحمايته ، فرفعت له هذه القصيدة : [بحر الطويل]
هل الهجر إلا أن يطول التجنّب |
|
ويبعد من قد كان منه التقرّب |
__________________
(١) في ج : «أبا العلى».
(٢) في ه : «وعن كتاب المظالم».
(٣) في ب : «وقال».
(٤) الوبل : المطر الغزير. والطلّ : المطر الخفيف وفي القرآن الكريم (فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌ).