يقولون إنه بني قدر إيوان كسرى الذي بالمدائن ، وكان يجلس فيها خلفاؤهم ولهم على الخليج الذي بين الفسطاط والقاهرة مبان عظيمة جليلة الآثار ، وأبصرت في قصورهم حيطانا عليها طاقات عديدة من الكلس والجبس ذكر لي أنهم كانوا يجدّدون تبييضها في كل سنة ، والمكان المعروف بالقاهرة ببين القصرين هو من الترتيب السلطاني ، لأن هناك ساحة متسعة للعسكر والمتفرّجين ما بين القصرين ، ولو كانت القاهرة كلها كذلك كانت عظيمة القدر كاملة الهمة السلطانية ، ولكن ذلك أمد قليل ، ثم تسير منه إلى أمد ضيق ، وتمرّ في ممر كدر خرج بين الدكاكين ، إذا ازدحمت فيه الخيل مع الرجالة كان مما تضيق به الصدور ، وتسخن منه العيون ، ولقد عاينت يوما وزير الدولة وبين يديه الأمراء ، وهو في موكب جليل ، وقد لقي في طريقه عجلة بقر تحمل حجارة ، وقد سدت جميع الطرق بين يدي الدكاكين ، ووقف الوزير وعظم الازدحام ، وكان في موضع طباخين ، والدخان في وجه الوزير ، وعلى ثيابه ، وقد كاد يهلك المشاة ، وكدت أهلك في جملتهم ، وأكثر دروب القاهرة ضيقة مظلمة كثيرة التراب والأزبال ، والمباني عليها من قصب وطين مرتفعة قد ضيّقت مسلك الهواء والضوء بينها ، ولم أر في جميع بلاد المغرب أسوأ منها حالا في ذلك ، ولقد كنت إذا مشيت فيها يضيق صدري ، وتدركني وحشة عظيمة ، حتى أخرج إلى بين القصرين.
ومن عيوب القاهرة أنها في أرض النيل الأعظم ويموت الإنسان فيها عطشا لبعدها عن مجرى النيل ، لئلا يصادرها ويأكل ديارها ، وإذا احتاج الإنسان إلى فرجة في نيلها مشى في مسافة بعيدة بظاهرها بين المباني التي خارج السور إلى موضع يعرف بالمقس ، وجوّها لا يبرح كدرا مما تثيره (١) الأرض من التراب الأسود ، وقد قلت فيها حين أكثر عليّ رفاقي من الحض على العود فيها : [بحر المتقارب]
يقولون سافر إلى القاهره |
|
ومالي بها راحة ظاهره |
زحام وضيق وكرب وما |
|
تثير بها أرجل سائره |
وعند ما يقبل المسافر عليها يرى سورا أسود كدرا ، وجوّا مغبرا ، فتنقبض نفسه ، ويفر أنسه ، وأحسن موضع في ظواهرها للفرجة أرض الطبالة ، لا سيما أرض القرط والكتان ، وقلت : [بحر الطويل]
سقى الله أرضا كلما زرت روضها |
|
كساها وحلّاها بزينته القرط |
__________________
(١) في ب ، ه : «بما تنثره الأرض».