فالحرّ يخدع بالكلام الطيب
فقد قال أحدهم : ما قيل أضرّ من هذا البيت على أهل التجمل ، وليس كل ما تسمع من أقوال الشعراء يحسن بك أن تتبعه ، حتى تتدبره ، فإن كان موافقا لعقلك مصلحا لحالك فراع (١) ذلك عندك ، وإلا فانبذه نبذ النواة ، فليس لكل أحد يتبسم ، ولا كل شخص يكلم ، ولا الجود مما يعم به ، ولا حسن الظنّ وطيب النفس مما يعامل به كل أحد ، ولله در القائل : [بحر الطويل]
ما لي لا أوفي البريّة قسطها |
|
على قدر ما يعطي وعقلي ميزان |
وإياك أن تعطى من نفسك إلا بقدر ، فلا تعامل الدون بمعاملة الكفء ، ولا الكفء بمعاملة الأعلى ، ولا تضيع عمرك فيمن يملك بالمطامع (٢) ، ويثنيك عن مصلحة حاضرة عاجلة بغائبة آجلة ، واسمع قول الأول : [المتقارب]
وبع آجلا منك بالعاجل
وأقلل من زيارة الناس ما استطعت ، ولا تجفهم بالجملة ، ولكن يكون ذلك بحيث لا يلحق منه ملل ولا ضجر ولا جفاء ، ولا تقل أيضا أقعد في كسر بيتي ولا أرى أحدا ، وأستريح من الناس ، فإن ذلك كسل داع إلى الذل والمهانة ، وإذا علم عدو لك أو صديق منك ذلك عاملاك بحسبه ، فازدراك الصديق وجسر عليك العدوّ ، وإياك أن يغرك صاحب واحد عن أن تدخر (٣) غيره للزمان ، وتطيعه في عداوة سواه ، ففي الممكن أن يتغير عليك فتطلب إعانة عليه أو استغناء عنه فلا تجد ذخيرة قدمتها ، وكان هو في أوسع حال وأعلى رأي بما دبره بحيلته في انقطاعتك عن غيره ، فلو اتفق لك أن تصحب من كل صناعة وكل رياسة من يكون لك عدّة لكان ذلك أولى وأصوب ، وسلني فإني خبير ، طال والله ما صحبت الشخص أكثر عمري لا أعتمد على سواه ، ولا أعتدّ إلا إياه ، منخدعا بسرابه (٤) ، موثوقا في حبائل خطابه ، إلى أن لا يحصل لي منه غير العضّ على البنان ، وقول لو كان ولو كان ، ولا يحملنك أيضا هذا القول أن تظنه في كل أحد ، وتعجل المكافأة ، وليكن حسن الظن بمقدار (٥) ، واصبر بمقدار (٦) ما ، والفطن لا تخفى عليه مخايل الأحوال ، وفي الوجوه دلالات وعلامات ، وأصغ إلى القائل : [الخفيف]
__________________
(١) في ب ، ه : «قواه ذلك عندك».
(٢) كذا في ب ، ه : أما في ج فجاء : «فيمن يعاملك».
(٣) في ب : «تذخر».
(٤) السراب : الذي تراه في الصحراء فتحسبه ماء.
(٥) في ب : «بمقدار ما».
(٦) في ب : «بقدر».