بين ركع وسجد ، وأيقاظ وهجد ، ومزدحم على الرقاب يتخطاها ، ومقتحم على الظهور يتمطاها ، كأنهم برد خلال قطر ، أو حروف في عرض سطر ، حتى إذا قرعت أسماعهم روعة التسليم ، تبادروا بالتكليم ، وتجاذبوا بالأثواب ، وتساقوا بالأكواب ، كأنهم حضور طال عليهم غياب ، أو سفر أتيح لهم إياب ، وصفيّك مع إخوان صدق ، تنكسب العلوم بينهم انسكاب الودق (١) ، في مكان كوكر العصفور ، أستغفر الله أو ككناس اليعفور (٢) ، كأن أقليدس قد قسم بيننا مساحته بالموازين ، وارتبطنا فيه ارتباط البيادق بالفرازين ، حتى صار عقدنا لا يحل ، وحدّنا لا يفل ، بحيث نسمع سور التنزيل كيف تتلى ، ونتطلع صور التفصيل كيف تجلى ، والقومة حوالينا يجهدون في دفع الضرر ، ويعمدون إلى قرع العمد بالدّرر ، فإذا سمع بها الصبيان قد طبقت الخافقين ، وسرت نحوهم سرى القين ، توهموا أنها إلى أعطافهم واصلة ، وفي أقحافهم حاصلة ، ففروا بين الأساطين ، كما تفرّ من النجوم الشياطين ، كأنما ضربهم أبو جهم بعصاه ، أو حصبهم عمير بن ضابىء (٣) بحصاه ، فأكرم بها مساع تشوق إلى جنة الخلد ، ويهون في السعي إليها إنفاق الطوارف والتّلد ، تعظيما لشعائر الله ، وتنبيها لكل ساه ولاه ، حكمة تشهد لله تعالى بالربوبية ، وطاعة تذل لها كل نفس أبيّة ، فلم أرد أدام الله سبحانه عزك منظرا منها أبهى ، ولا مخبرا أشهى ، وإذ (٤) لم تتأمله عيانا ، فتخيله بيانا ، وإن كان حظ منطقي من الكلام ، حظ السفيح (٥) من الأزلام ، لكن ما بيننا من مودة أكدنا وسائلها ، وذمّة تقلدنا حمائلها ، يوجب قبول إتحافي سمينا وغثّا ، ولبس إلطافي جديدا ورثا ، لا زلت لزناد النبل موريا ، وإلى آماد الفضل مجريا ، والتحية العبقة الريّا ، المشرقة المحيّا ، عليك ما طلع قمر ، وأينع ثمر ، ورحمة الله تعالى وبركاته ، انتهى.
وذكر ابن بشكوال أن الحكم المستنصر هدم الميضأة القديمة التي كانت بفناء الجامع (٦) الذي يستقي (٧) لها الماء من بئر السانية ، وبنى موضعها أربع ميضآت في كل جانب من جانبي المسجد الشرقي والغربي منها ثنتان كبرى للرجال وصغرى للنساء ، أجرى في جميعها الماء في قناة اجتلبها من سفح جبل قرطبة إلى أن صبت ماءها في أحواض رخام لا ينقطع جريانه الليل
__________________
(١) الودق : المطر.
(٢) اليعفور : الغزال.
(٣) عمير بن ضابىء : هو الذي كسر أضلاع عثمان بن عفان يوم الدار.
(٤) في ب : إذا.
(٥) السفيح : قدح من قداح القمار لا نصيب له في الربح.
(٦) الذمة : العهد. وفي ب ، ه : أذمة ، وهي جمع ذمام.
(٧) في ب : بفناء الجامع يستسقي لها.