مصلى الرّبض بقرطبة بارزين إلى الله تعالى في جمع عظيم ، وصعد الخليفة الناصر في أعلى مصانعه المرتفعة من القصر ليشارف الناس ، ويشاركهم في الخروج إلى الله والضّراعة له ، فأبطأ القاضي حتى اجتمع الناس وغصت بهم ساحة المصلى ، ثم خرج نحوهم ماشيا متضرعا مخبتا متخشعا (١) ، وقام ليخطب ، فلما رأى بدار الناس إلى ارتقائه ، واستكانتهم من خيفة الله ، وإخباتهم له ، وابتهالهم إليه ـ رقت نفسه ، وغلبته عيناه ، فاستعبر وبكى حينا ، ثم افتتح خطبته بأن قال : يا أيها الناس ، سلام عليكم ، ثم سكت ووقف شبه الحصر ، ولم يك من عادته ، فنظر الناس بعضهم إلى بعض لا يدرون ما عراه ولا ما أراد بقوله ، ثم اندفع تاليا قوله تعالى (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) ـ إلى قوله تعالى ـ (رَحِيمٌ) [الأنعام : ٥٤] ثم قال : استغفروا ربكم إنه كان غفارا ، استغفروا ربكم ثم توبوا إليه ، وتزلّفوا بالأعمال الصالحة لديه ، قال الحاكي : فضج الناس بالبكاء ، وجأروا بالدعاء ، ومضى على تمام خطبته ، ففزّع النفوس بوعظه ، وانبعث الإخلاص بتذكيره ، فلم ينقض النهار حتى أرسل الله السماء بماء منهمر ، روّى الثرى ، وطرد المحل ، وسكن الأزل ، والله لطيف بعباده وكان لمنذر في خطب الاستسقاء استفتاح عجيب ، ومنه أن قال يوما ـ وقد سرح طرفه في ملأ الناس عند ما شخصوا إليه بأبصارهم ، فهتف بهم كالمنادي ـ : يا أيها الناس ، وكررها عليهم مشيرا بيده في نواحيهم (أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ) [فاطر : ١٥] إلى بعزيز ، فاشتد وجد الناس ، وانطلقت أعينهم بالبكاء ، ومضى في خطبته.
وقيل : إن الخليفة الناصر طلبه مرة للاستسقاء ، واشتدّ عزمه عليه ، فتسابق الناس للمصلى ، فقال للرسول ـ وكان من خواص الناس ـ : ليت شعري! ما الذي يصنعه الخليفة سيدنا؟ فقال له : ما رأينا قط أخشع منه في يومنا هذا ، إنه منتبذ حائر منفرد بنفسه ، لابس أخس الثياب ، مفترش التراب ، وقد رمّد به على رأسه وعلى لحيته ، وبكى واعترف بذنوبه وهو يقول : هذه ناصيتي بيدك ، أتراك تعذب بي الرعية وأنت أحكم الحاكمين؟ لن يفوتك شيء مني ، قال الحاكي : فتهلل وجه القاضي منذر عند ما سمع قوله ، وقال : يا غلام ، احمل المطر معك فقد أذن الله تعالى بالسّقيا ، إذا خشع جبار الأرض فقد رحم جبار السماء ، وكان كما قال ، فلم ينصرف الناس إلا عن السقيا.
وكان منذر شديد الصلابة في أحكامه (٢) ، والمهابة في أقضيته ، وقوة الحكومة (٣) والقيام بالحق في جميع ما يجري على يده ، لا يهاب في ذلك الأمير الأعظم فمن دونه.
__________________
(١) مخبتا : أخبت اطمأن إلى الله وتخشع إليه.
(٢) في المطمح : من ذوي الصلابة في أحكامه.
(٣) في ه : وقوة الخلوة.