وقال ابن الحسن النّباهي (١) ، وأصله في المطمح وغيره : ومن أخبار منذر المحفوظة له مع الخليفة الناصر في إنكاره عليه الإسراف في البناء ، أن الناصر كان اتخذ لسطح القبيبة المصغرة الاسم للخصوصية التي كانت مائلة على الصّرح الممرد المشهور شأنه بقصر الزهراء قراميد ذهب وفضة (٢) أنفق عليها مالا جسيما ، وقرمد سقفها به ، وجعل سقفها صفراء فاقعة ، إلى بيضاء ناصعة ، تستلب الأبصار بأشعة نورها ، وجلس فيها إثر تمامها يوما لأهل مملكته ، فقال لقرابته ومن حضر من الوزراء وأهل الخدمة مفتخرا عليهم بما صنعه من ذلك مع ما يتصل به من البدائع الفتانة : هل رأيتم أو سمعتم ملكا كان قبلي فعل مثل هذا أو قدر عليه؟ فقالوا : لا والله يا أمير المؤمنين ، وإنك لأوحد في شأنك كله ، وما سبقك إلى مبتدعاتك هذه ملك رأيناه ، ولا انتهى إلينا خبره ، فأبهجه قولهم وسره ، وبينما هو كذلك إذ دخل عليه القاضي منذر بن سعيد وهو ناكس الرأس ، فلما أخذ مجلسه قال له كالذي قال لوزرائه من ذكر السقف المذهب واقتداره على إبداعه ، فأقبلت دموع القاضي تنحدر على لحيته وقال له : والله يا أمير المؤمنين ما ظننت أن الشيطان لعنه الله يبلغ منك هذا المبلغ ، ولا أن تمكنه من قيادك هذا التمكين ، مع ما آتاك الله من فضله ونعمته ، وفضلك به على العالمين ، حتى ينزلك منازل الكافرين ، قال : فانفعل عبد الرحمن لقوله ، وقال له : انظر ما تقول ، وكيف أنزلني منزلتهم؟ قال : نعم ، أليس الله تعالى يقول (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) [الزخرف : ٣٣] الآية. فوجم الخليفة ، وأطرق مليّا ودموعه تتساقط خشوعا لله تعالى قال الحاكي : ثم أقبل على منذر وقال له : جازاك الله يا قاضي عنا وعن نفسك خيرا وعن الدين والمسلمين أجل جزائه ، وكثر في الناس أمثالك! فالذي قلت هو الحق ، وقام عن مجلسه ذلك وهو يستغفر الله تعالى ، وأمر بنقض سقف القبيبة ، وأعاد قرمدها ترابا على صفة غيرها ، انتهى ما حكاه ابن الحسن النّباهي.
ولنذكر هذه الحكاية وغيرها ، وإن خالف السياق ما سبق ، وهذا منقول من كلام الحجاري في «المسهب ، في أخبار المغرب» فإنه أتم فائدة ، إذ قال رحمه الله : دخل منذر بن سعيد يوما على الناصر باني الزهراء ، وهو مكب على الاشتغال بالبنيان ، فوعظه ، فأنشده عبد الرحمن الناصر (٣) : [الكامل]
همم الملوك إذا أرادوا ذكرها |
|
من بعدهم فبألسن البنيان |
أو ما ترى الهرمين قد بقيا وكم |
|
ملك محاه حوادث الأزمان |
__________________
(١) في ب : النّباهي (بضم النون مشددة).
(٢) في ب : قراميد مغشاة ذهبا وفضة.
(٣) المغرب : ج ١ ص ١٧٤. وفي ب : فأنشده عبد الرحمن الناصر.