إنّ البناء إذا تعاظم شأنه |
|
أضحى يدلّ على عظيم الشّان |
قال : فما أدري أهذا شعره أم تمثل به؟ فإن كان شعره فقد بلغ به إلى غاية الإحسان وإن كان تمثل به فقد استحقه بالتمثل به في هذا المكان ، وكان منذر يكثر تعنيفه (١) على البنيان ، ودخل عليه مرة وهو في قبة قد جعل قرمدها من ذهب وفضة ، واحتفل فيها احتفالا ظن أن أحدا من الملوك لم يصل إليه ، فقام خطيبا والمجلس قد غصّ بأرباب الدولة ، فتلا قوله تعالى (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ) (٣٣) [الزخرف : ٣٣] الآية وأتبعها بما يليق بذلك ، فوجم الملك ، وأظهر الكآبة ، ولم يسعه إلا الاحتمال لمنذر بن سعيد لعظم قدره في علمه ودينه.
وحضر معه يوما في الزهراء ، فقام الرئيس أبو عثمان بن إدريس فأنشد الناصر قصيدة منها. [الطويل]
سيشهد ما أبقيت أنّك لم تكن |
|
مضيعا وقد مكّنت للدّين والدّنيا |
فبالجامع المعمور للعلم والتّقى |
|
وبالزّهرة الزّهراء للملك والعليا |
فاهتز الناصر ، وابتهج ، وأطرق منذر بن سعيد ساعة ، ثم قام منشدا : [السريع]
يا باني الزّهراء مستغرقا |
|
أوقاته فيها أما تمهل |
لله ما أحسنها رونقا |
|
لو لم تكن زهرتها تذبل |
فقال الناصر : إذا هب عليها نسيم التذكار والحنين ، وسقتها مدامع الخشوع يا أبا الحكم لا تذبل إن شاء الله تعالى ، فقال منذر : اللهم اشهد أني قد بثثت ما عندي ولم آل نصحا ، انتهى.
ولقد صدق القاضي منذر رحمه الله تعالى فيما قال ، فإنها ذبلت بعد ذلك في الفتنة ، وقلب ما كان فيها من منحة محنة ، وذلك عندما ولي الحجابة عبد الرحمن بن المنصور بن أبي عامر الملقب بشنجول ، وتصرف في الدولة مثل ما تصرف أخوه المظفر وأبوهما المنصور ، فأساء التدبير ، ولم يميز بين الفتيل والنقير (٢) ، فدس إلى المؤيد هشام بن الحكم من خوّفه منه حتى ولاه عهده كما بينا نص العهد فيما سبق ، فأطبق الخاصة والعامة على بغضه ، وإضمار السوء له ، وذلك سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة ، فعند ذلك خرج عليه محمد بن هشام بن
__________________
(١) في ب : تعنيته على البنيان.
(٢) الفتيل : الخيط من شق النواة أو البذرة. والنقير : الحفرة الصغيرة التي تكون في بذرة التمر ، وفي ب : القبيل والدبير.