فقال الزجاج : وهو من إبدال الواو المضمومة همزة لقصد التخفيف في نطق الضمة كقوله تعالى : (أُقِّتَتْ) [المرسلات : ١١] وقولهم : أجوه : جمع وجه. وبحث فيه أبو حيان ، وقال الفراء والزجاج أيضا : هو من نأش بالهمز إذا أبطأ وتأخر في عمل. ومنه قول نهشل بن حري النهشلي :
تمنّى نئيشا أن يكون أطاعني |
|
وقد حدثت بعد الأمور أمور |
أي تمنّى أخيرا. وفسر المعري في «رسالة الغفران» نئيشا بمعنى : بعد ما فات. وعلى كلا التفسيرين فالمراد بالتناوش وصف قولهم : (آمَنَّا بِهِ) بأنه إيمان تأخر وقته أو فات وقته.
وفي الجمع بين (مَكانٍ قَرِيبٍ) و (مَكانٍ بَعِيدٍ) محسن الطباق.
وجملة (وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) في موضع الحال ، أي كيف يقولون آمنّا به في وقت الفوات والحال أنهم كفروا به من قبل في وقت التمكن فهو كقوله تعالى : (وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ) [القلم : ٤٣].
(وَيَقْذِفُونَ) عطف على (كَفَرُوا) فهي حال ثانية. والتقدير : وكانوا يقذفون بالغيب. واختيار صيغة المضارع لحكاية الحالة كقوله تعالى : (وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ) [هود : ٣٨].
والقذف : الرمي باليد من بعد. وهو هنا مستعار للقول بدون تروّ ولا دليل ، أي يتكلمون فيما غاب عن القياس من أمور الآخرة بما لا علم لهم به إذ أحالوا البعث والجزاء وقالوا لشركائهم : هم شفعاؤنا عند الله.
ولك أن تجعل (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) تمثيلا مثل ما في قوله (وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) ، شبهوا بحال من يقذف شيئا وهو غائب عنه لا يراه فهو لا يصيبه البتة.
وحذف مفعول (يَقْذِفُونَ) لدلالة فعل (وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) عليه ، أي يقذفون أشياء من الكفر يرمون بها جزافا.
والغيب : المغيّب. والباء للملابسة ، والمجرور بها في موضع الحال من ضمير (يَقْذِفُونَ) ، أي يقذفون وهم غائبون عن المقذوف من مكان بعيد.
و (مَكانٍ بَعِيدٍ) هنا مستعمل في حقيقته يعني من الدنيا ، وهي مكان بعيد عن الآخرة