بكيد الآخر قبل أن يقع فيه فيفضي ذلك إلى فساد كبير في العالم والله لا يحب الفساد ، ولا ضر عبيده إلّا حيث تأذن شرائعه بشيء ، ولهذا قيل في المثل : «وما ظالم إلّا سيبلى بظالم». وقال الشاعر :
لكل شيء آفة من جنسه |
|
حتى الحديد سطا عليه المبرد |
وكم في هذا العالم من نواميس مغفول عنها ، وقد قال الله تعالى : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) [البقرة : ٢٠٥]. وفي كتاب ابن المبارك في الزهد بسنده عن الزهري بلغنا أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «لا تمكر ولا تعن ماكرا فإن الله يقول (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) ، ومن كلام العرب «من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا» ، ومن كلام عامة أهل تونس (يا حافر حفرة السّوء ما تحفر إلّا قياسك».
وإذا كان تعريف (الْمَكْرُ) تعريف العهد كان المعنى : ولا يحيق هذا المكر إلّا بأهله ، أي الذين جاءهم النذير فازدادوا نفورا ، فيكون موقع قوله : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) موقع الوعيد بأن الله يدفع عن رسوله صلىاللهعليهوسلم مكرهم ويحيق ضر مكرهم بهم بأن يسلط عليهم رسوله على غفلة منهم كما كان يوم بدر ويوم الفتح ، فيكون على نحو قوله تعالى : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) [آل عمران : ٥٤] فالقصر حقيقي.
فكم انهالت من خلال هذه الآية من آداب عمرانية ومعجزات قرآنية ومعجزات نبوية خفية.
واعلم أن قوله تعالى : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) قد جعل في علم المعاني مثالا للكلام الجاري على أسلوب المساواة دون إيجاز ولا إطناب. وأول من رأيته مثّل بهذه الآية للمساواة هو الخطيب القزويني في «الإيضاح» وفي «تلخيص المفتاح» ، وهو مما زاده على ما في «المفتاح» ولم يمثل صاحب «المفتاح» للمساواة بشيء ولم أدر من أين أخذه القزويني فإن الشيخ عبد القاهر لم يذكر الإيجاز والإطناب في كتابه.
وإذ قد صرح صاحب «المفتاح» «أن المساواة هي متعارف الأوساط وأنه لا يحمد في باب البلاغة ولا يذم» فقد وجب القطع بأن المساواة لا تقع في الكلام البليغ بله المعجز. ومن العجيب إقرار العلامة التفتازانيّ كلام صاحب «تلخيص المفتاح» وكيف يكون هذا من المساواة وفيه جملة ذات قصر والقصر من الإيجاز لأنه قائم مقام جملتين : جملة إثبات للمقصود ، وجملة نفيه عما سواه ، فالمساواة أن يقال : يحيق المكر السيّئ