الشيطان هو الترك لا الغفلة ولا إذهاب الفكرة. وبعد اتضاح هذا نقول في الجواب عن الاستدلال : إنّ النسيان في الآية المباركة لم يصدر من الرسول (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) فلم يكن الغرض من خطابه (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بذلك هو توجيه التكليف إليه ، بل المراد من الخطاب هو جعل التكليف لسائر المؤمنين ؛ وذلك لأن الخطابات القرآنية كما ذكر أهل البلاغة وأصحاب التفسير نزلت على نحو «إياك أعني واسمعي يا جارة» (١) ، نظير ما إذا أراد الأب أن ينهى أولاده عن فعل شيء قبيح فيوجه الخطاب إلى ولده الأكبر وهو يعلم أنّه لا يفعله فيرتدع الباقون ، وهذا الأُسلوب في الخطاب من روائع الكلام ولطف الحديث ، فإنّ توجيه النهي لأقرب الناس من المتكلم مع ثقته به واطمئنانه بعدم قيامه بالفعل المنهي عنه موجب لردع الآخرين وزجرهم بنحو أقوى من اختصاص الخطاب بغيره وتوجيهه إلى الآخر المقصود بالنهي ، والمسوغ لهذا اللون من الخطاب مع علم المتكلم بعدم عصيان المخاطب هو وجود ملاك النهي فيه ، أعني القدرة على المخالفة والعصيان ، وإلَّا كان الخطاب لغواً. وكذلك الأمر في الخطابات القرآنية ومنها الآية الكريمة المذكورة ، فإنّ المصحح لها مع علمه تبارك وتعالى بعصمة النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) ونزاهته هو وجود ملاك النهي فيه ، وهو قدرته على المخالفة والمعصية ، إذ العصمة لا تسلب المعصوم قدرته على المخالفة كما قدمنا الكلام فيها ؛ فا لله سبحانه وتعالى يوجّه الخطاب إلى النبي (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بعدم الجلوس في المكان الذي يساء فيه إلى القرآن والدين حتى يعلم الناس بعدم جواز الجلوس في مثل ذلك المكان وأنّ هذا الحكم موجّه للجميع من دون أن يراد (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم) بقوله تعالى (وإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ) (٢).
__________________
١) مروي عن ابن عباس.
٢) وهناك آيات كثيرة بهذا النحو منها :