وأظن أنّ علم الأُصول لم يكن مدوّناً في عصر الإمام مالك وقد أخذ هو بهذا الأصل وأفتى بحرمة التوصّل. ووجوب السدّ وعذر الإمام مالك مسموع ، وأمّا المتأخّرون عنه الذين نضج علم الأُصول بأيديهم وأفكارهم فكان عليهم أن يجعلوا هذا الأصل فرعاً من أحكام المقدّمة أو لا أقلّ من أحكام مقدّمة الحرام أو خصوص ما قصد به التوصّل لو قيل باختصاص البحث بصورة القصد خلافاً لما حقّقناه ، وعندئذ يتخلّصوا من عناء البحث الطويل.
٦. أدلّته
ثمّ إنّ القائلين بسدّ الذرائع استدلّوا بوجوه مختلفة ، وممن أطنب الكلام فيه ابن القيّم في كتابه إعلام الموقعين ، فقد استدلّ تارة بالاستقراء ، وأُخرى بدليل العقل ، ونحن نأتي بكلا الدليلين ثمّ نشير إلى سائر الأدلّة.
الأوّل : الاستدلال بالاستقراء
لقد جمع ابن القيّم مسائل كثيرة تبلغ تسعاً وتسعين مسألة ، وجد فيها جميعاً اتّحاد الحكم في الوسائل وما تفضي إليه. واستنتج من هذا الاستقراء انّ الشارع يعطي للوسائل دائماً حكم ما تنتهي إليه ، فإذا وجدنا وسيلة وذريعة لحرام ، ولم نعثر في الكتاب والسنّة على دليل لحرمتها على حرمته نستنتج أنّ الشارع أعطى لها حكم ذيها آخذاً بالاستقراء.
وإليك شيئاً من الأمثلة التي استقرأها من مواضع مختلفة ووجد فيها وحدة الحكم بين المقدّمة وذيها :
الأوّل : قوله تعالى : (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً