أداة العموم موضوعة للدلالة على عدم دخل خصوصية أخرى في الحكم غير ما ذكر في اللفظ. وامّا في التخصيص بالمنفصل ، فبيان عدم المجازية يتوقف على ذكر مقدمة وهي : انا قد ذكرنا في مبحث الوضع انّ الدلالة الوضعيّة انما هي الدلالة التصديقية ، أي دلالة اللفظ على انّ المتكلم به أراد تفهيم معناه ، وهي التي تستند إلى الوضع ، واما الدلالة التصورية فهي مستندة إلى أنس الذهن وأجنبية عن الوضع ، وذلك لأنّ الوضع عبارة عن تعهد الواضع ذكر اللفظ عند إرادة تفهيم المعنى ، فالدلالة الوضعيّة دلالة اللفظ على قصد تفهيم المعنى وبيانه ، وهذه هي النعمة المهمة التي أنعم الله تعالى بها على الإنسان وذكرها بقوله عزّ شأنه (عَلَّمَهُ الْبَيانَ)(١) ولو لا تلك أي القدرة على البيان لاختل أمور الإنسان ولم يتمكن من تفهيم أكثر مقاصده بالإشارة ونحوها ، امّا في الكلمة ونحوها فظاهر ، وامّا في غيره فلعدم إمكان تفهيم جميع المقاصد بها كما هو واضح.
والظاهر انّ المراد بالناطق المستعمل في تعريف الإنسان هو القدرة على تفهيم مقاصده بالألفاظ ، لا مجرد التكلم ، فانه مشترك بينه وبين جملة من غيره من الحيوانات ، فالدلالة المستندة إلى الوضع هي دلالة اللفظ على قصد المتكلم للتفهيم ، وهناك دلالة أخرى للفظ مستندة إلى بناء العقلاء وهي الدلالة على انّ ما قصد تفهيمه هو مراده الجدي ، ويعبر عنها بالحجية.
إذا عرفت هذا فنقول : القرائن المنفصلة ومنها التخصيص انما تزاحم الدلالة الثانية وهي الحجية دون الدلالة الأولى ، مثلا إذا قال : «أكرم كل عالم» ثم قال «لا تكرم فساقهم» فالمخصص سواء كان حكما شخصيا أو كليا يكشف عن انّ المراد الجدي لم يتعلق بالعموم وجميع أفراد العالم ، ولا ينافي الدلالة الأولى أعني كون
__________________
(١) الرحمن ـ ٤.