وفيه : مضافا إلى ما عرفت مما يرد على الوجه الأول : إنه لو سلّم اتفاقهم على ذلك ، لم يحرز أنهم اتفقوا بما هم مسلمون ومتدينون بهذا الدين ، أو بما هم عقلاء ولو لم يلتزموا بدين ، كما هم لا يزالون يعملون بها في غير الأمور الدينية من الأمور العادية ، فيرجع إلى ثالث الوجوه ، وهو : دعوى استقرار سيرة العقلاء من ذوي الأديان وغيرهم على العمل بخبر الثقة ، واستمرت إلى زماننا ، ولم يردع عنه نبي ولا وصي نبي ، ضرورة (١) : أنه لو كان لاشتهر وبان ، ومن الواضح : أنه يكشف عن رضاء الشارع به في الشرعيات أيضا.
إن قلت (٢) : يكفي في الردع الآيات الناهية ، والروايات المانعة عن اتباع غير
______________________________________________________
وشذ من لا يعمل به ؛ بل نرى العقلاء أنهم يعتمدون في أعز أشيائهم وهي نفوسهم على الثقة ، فيركبون الطائرة التي يقودها ثقة عارف ، مع أنه لو قصر لسقطت وهلكوا ، فإذا عملوا على طبق نظر الثقة في مثل نفوسهم فكيف لا يعملون بخبره في سائر شئونهم؟
(١) تعليل لقوله : «ولم يردع عنه». وضمير «عنه» راجع على العمل بخبر الثقة.
وضمير «أنه» راجع على الردع المستفاد من العبارة. فمرجع الضمير حينئذ : معنوي ، وضمير «أنه» في قوله : «أنه عن رضا الشارع» راجع على عدم الردع ، وضمير «به» راجع على العمل بخبر الثقة.
قوله : «أيضا» أي : كما هو كاشف عن رضا الشارع في غير الشرعيات.
وهذا الوجه من تقرير الإجماع يتوقف على مقدمات أربع :
الأولى : عملهم بخبر الثقة.
الثانية : عدم ردع الشارع عنه.
الثالثة : وجود المقتضي للردع على تقدير عدم الحجية.
الرابعة : عدم المانع عن الردع.
والفرق بين هذا الوجه وسابقه : أن الوجه السابق كان سيرة المسلمين خاصة على العمل بخبر الثقة في خصوص الأمور الشرعية ، وهذا الوجه هو : دعوى سيرة العقلاء عامة على العمل بخبر الثقة في تمام أمورهم العادية ، ومنها الأمور الدينية ، فهذا الوجه أوسع من سابقه ، كما أن السابق كان أوسع من الأول.
(٢) هذا إشكال على التمسك ببناء العقلاء ، وحاصله : أن بناء العقلاء على العمل بخبر الثقة في كافة أمورهم وإن كان مسلما ولكن من المعلوم أن التمسك به مشروط بإمضاء الشارع له ، وعدم ردعه عنه ؛ إذ ليس بنفسه حجة لو لا إمضاء الشارع ، ولم يثبت