لأنّا نقول : بناء العقلاء قائم على وجوب الاحتراز عن احتمال الضرر حتّى الوهم ، كما لو قال صبيّ أو فاسق كاذب : « أنّ تلك القصعة من الماء مثلا مسموم » من غير أن يحصل من قولهما ظنّ بصدقهما ، بل وإن فرض حصول ظنّ بالكذب ومع ذلك كان معه ماء آخر خال عن الاحتمال المذكور فبناؤهم قاطبة حينئذ على وجوب الاحتراز عنها باختيار الآخر ، ونحوه الطريقان وغيره من الأمثلة.
لا يقال : بناء العقلاء ثابت في جانب العكس ، ويكشف عن ذلك سكناهم في البيوت المحتملة للخراب وعبورهم تحت الجدران المحتملة للوقوع ، ومسافرتهم في البحار لغرض التجارة مع احتمال الغرق إلى غير ذلك ممّا لا يخفى من امورهم المعاشيّة.
لأنّا نقول : عدم اعتنائهم بالاحتمال في الموارد المذكورة وغيرها ممّا يشابهها إنّما هو من جهة وجود معارض أقوى أو مساو ، فإنّ الفرار عن السكنى في البيوت مستلزم للوقوع في محذور أشدّ منه أو يساويه وكذا في غيره من الأمثلة ، ومحلّ الكلام الّذي هو مجرى تلك القاعدة ما إذا خلا عن المعارض كما فيما نحن فيه.
لا يقال : هذا البناء من العقلاء إنّما يسلّم في امورهم المعاشيّة غير أنّه غير مجد ، إذ الكلام إنّما هو في ما كان من قبيل الامور المعاديّة وليس لهم بناء ثابت في ذلك.
لأنّا نقول : إذا تمّ ذلك في الامور المعاشيّة ففي المعاديّة بطريق أولى ، لأنّ بناءهم على شدّة الاهتمام في الامور الخطيرة ، ولا ريب أنّ الأمر الاخروي أشدّ خطرا بالقياس إلى الدنيوي بمراتب شتّى ، فيكون الاحتراز بالنسبة إليه آكد وأهمّ.
قلت : لا دليل على وجوب الاحتراز عن الضرر المحتمل إلاّ بناء العقلاء وثبوته في محل البحث مطلقا في حيّز المنع.
وبيان ذلك : أنّ احتمال الضرر قد يستند إلى شيء ويكون مسبّبا عن سبب ضعيف كقول صبيّ مميّز أو فاسق كاذب ونحوهما ، وقد لا يكون مستندا إلى شيء ولا مسبّبا عن أمر بل هو مجرّد خيال قد حدث في النفس ، والقدر الثابت من بناء العقلاء على الاحتراز إنّما هو في القسم الأوّل دون الثاني ، بل الثابت من بنائهم فيه إنّما هو على العكس.
ألا ترى أنّه لو كان احتمال السمّ في مثال القصعة مستندا إلى مجرّد الخيال والوهم لا يلتزم العقلاء بالاحتراز عنه ، بل ولو التزم أحد عدّ عندهم من السفهاء كما لا يخفى.
واحتمال الضرر في محلّ البحث إنّما هو من هذا القبيل ، ولا سيّما في مقابلة الإطلاق