بل لأنّه إنّما يتمّ إذا كان الحمل في قضيّة قوله : ( وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ )(١) على طريق المواطاة ليفيد انحصار « الدين » في العبادة وهو خلاف ظاهر الحمل ، بل الظاهر منه في العرف والعادة ـ كما هو المصرّح به في كلام بعض الأعلام ـ هو الحمل المتعارفي ، مضافا إلى أنّ أكثر أوامر الشرع هو التوصّليّات فكيف يعقل مع ذلك إرادة حصر « الدين » في التعبّديّات ، فيكون المعنى حينئذ : « أنّ العبادة على وجه الإخلاص من جملة أفراد الدين » وهو أيضا ممّا لا ينكره أحد ، ولا يلزم منه الدلالة على أنّ كلّ ما ثبت في الدين من أنواع المأمور به فهو عبادة إلاّ ما خرج بالدليل كما هو مطلوبهم.
وأمّا ما يقال في ردّ ذلك أيضا : بأنّه ممّا يفضي إلى ارتكاب تخصيص الأكثر في الآية تعليلا بما ذكرناه من كون أكثر الأوامر التوصّليات ، فمّما لا ينبغي الالتفات إليه ، كما لا ينبغي الالتفات إلى تقريره الآخر من أنّ المأمور به في الشريعة على أقسام ثلاث :
الأوّل : ما اعتبر فيه جهة التعبّد محضا كالصلاة ونحوها.
والثاني : ما اعتبر فيه جهة التوصّل محضا.
والثالث : ما اعتبر فيه الجهتان معا ، فيخرج الأخيران عن عموم الآية والباقي بالنسبة إليهما ليس إلاّ كشعرة بيضاء في بقرة سوداء.
ولا ريب أنّ تخصيص الأكثر إمّا باطل أو مرجوح مضعّف ، فإنّ تخصيص الأكثر بناء على التحقيق جائز ، وكونه مرجوحا إنّما يسلّم إذا لم يكن الباقي في حدّ نفسه كثيرا والمقام ليس منه.
ألا ترى أنّ قوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ )(٢) لا كلام عندهم في حجّيّته وتقدّمه على الأصل الأوّلي المستفاد عن العمومات الأوّليّة ، مع أنّ خارجه من الأفراد أغلب من باقيه بمراتب شتّى ، ضرورة كثرة العقود الفاسدة نوعا بحسب الشرع ، مضافة إلى العقود الّتي تخرج فاسدة بسبب الاختلال في بعض شروط الصحّة.
ومنها : قوله تعالى ( أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ )(٣) بتقريب : أنّ الأمر بالإطاعة ـ وهو الانقياد والإتيان بالمأمور به ـ وارد على الأوامر الشخصيّة الواردة في الشريعة الّتي يثبت بها الواجبات ، فيدلّ على أنّ تلك الأوامر الواردة مطلقة لابدّ وأن يمتثل
__________________
(١) البيّنة : ٥.
(٢) المائدة : ١.
(٣) النساء : ٥٩.