تقدّم من شهادة كلام أهل اللغة هي التذلّل وغاية الخضوع وقد عرفت أنّه لا يتحصّل إلاّ بالأعمال المأمور بها مع قصد الامتثال ، لعدم اندراج ما عدا ذلك عرفا في التذلّل ، فإذا كان المأمور به هو التذلّل بهذا المعنى يصير عبادة بالمعنى المتنازع فيه.
نعم يرد عليه ابتناء ثبوت المطلوب على هذا التقدير على كون المستثنى منه المقدّر هو الأمر العامّ ، حتّى يكون التقدير : « وما امروا بشيء ممّا امروا به إلاّ العبادة على وجه الإخلاص » ليلزم منه الدلالة على كون كلّ مأمور به هو العبادة وهو غير ظاهر من الآية ، بل الظاهر خلافه على ما يدركه الذوق السليم من ركاكة هذا المعنى وعدم ملائمة المستثنى للمستثنى منه ، وإنّما المناسب أن يقدّر المستثنى منه من جنس المستثنى كما عرفت حكايته عن ابن هشام ، فيكون المعنى : « وما امروا بالعبادة إلاّ العبادة الخالصة لله تعالى » وهذا المعنى لا ملازمة بينه وبين كون كلّ ما امروا به عبادة كما هو المطلوب.
نعم تدلّ على أنّ العبادة لابدّ وأن تقع على وجه الإخلاص وهو أمر لا ينكره أحد حتّى يحتجّ عليه بالآية.
وإن حاولوا الاستدلال على مطلوبهم بقوله تعالى : ( وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ )(١) لا يتمّ أيضا ، لا لما قيل من أنّ « الدين » على ما صرّح به أهل اللغة والمفسّرون هو الطريقة الثابتة من الله سبحانه ، وهي عبارة عن أوامره تعالى وأحكامه خاصّة ، وهذا المعنى بظاهره مخالف لمطلوبهم لأنّه حينئذ لابدّ وأن يراد من « الدين » التديّن الّذي هو من مقولة الأفعال ، إذ المشار إليه حينئذ هو العبادة المفهومة عن قوله : ( لِيَعْبُدُوا اللهَ )(٢) ولمّا كانت العبادة من مقولة الأفعال فلا يلائمها حمل « الدين » عليها بالمعنى المذكور من أهل اللغة ، للزوم البينونة حينئذ فيما بين الموضوع والمحمول ، نظرا إلى أنّه لا ملائمة بين الأوامر والأحكام الّتي هي الطريقة الثابتة وبين ما هو من مقولة الأفعال ، وظاهر أنّ الحمل ممّا يقتضي الاتّحاد الخارجي فلابدّ من حمله على ما كان من مقولة الأفعال وهو التديّن ، وهو كما ترى بعيد مخالف للظاهر ، فلا يصار إليه إلاّ مع دلالة معتبرة ليست موجودة في المقام.
لأنّ ذلك يندفع : بأنّ « الدين » ممّا ثبت فيه الحقيقة الشرعيّة ـ على ما يساعده التحقيق ـ والمتبادر منه عند المتشرّعة إنّما هو المعنى المصدري كما لا يخفى على المتأمّل ، فلا بعد حينئذ في حمله عليه ، بل هو ممّا يقتضيه الأصل والظاهر.
__________________
(١ و ٢) البيّنة : ٥.