وربّما يقرّر ذلك : بأنّ الغالب في الاستعمالات إرادة التأسيس والحمل على التأكيد نادر ، والظنّ يلحق الشيء بالأعمّ الأغلب ، وبأنّ المقصود الأصلي في المخاطبات إعلام السامع بما في ضمير المتكلّم وهو إنّما يكون في التأسيس ، وأمّا التأكيد فإنّما يراد به تثبيت الحكم المدلول عليه بالكلام وهو خارج عمّا هو المقصد الأصلي عن وضع الألفاظ.
الثالث : أنّ اللفظ ليس موضوعا للتأكيد فاستعماله فيه يكون مجازا ، حكاه السيّد.
الرابع : ما حكاه بعض الأعاظم من أنّ الأمر الثاني قبل تعقّبه بالأمر الأوّل كان للوجوب ، فكذا بعده للاستصحاب.
والجواب عن الأوّل : منع العلّيّة إن اريد بها التأثير ، كيف وقد اتّفق الكلّ على أنّ اللفظ كاشف عن الوجوب حتّى الأشاعرة القائلة بالكلام النفسي.
وقد نصّ به غير واحد ، وأضاف إليه بعض الأعاظم أنّ العلل الشرعيّة ـ على تسليم العلّيّة ـ معرّفات فلا يمتنع اجتماعها على معلول واحد.
أقول : ويتوجّه إليه أيضا منع امتناع تحصيل الحاصل على تقدير العلّيّة الحقيقيّة لو وجب به الفعل المأمور به أوّلا إذا كان الغرض الأصلي رفع ذهول السامع ، أو توهّمه إرادة التجوّز من الأمر أو متعلّقه ، وهو أمر يهتمّ بشأنه الحكماء من المتكلّمين وبلغاؤهم لئلاّ يفوت ما هو الغرض الأصلي من الكلام ، فلو امتنع تحصيل الحاصل في مثل ذلك لانسدّ باب التأكيد في المخاطبات وهو كما ترى. مع أنّ الحاصل لو اريد به حصوله في الواقع والظاهر ، نمنع كونه كذلك في محلّ البحث وغيره من مواضع التأكيد ، لجواز كون الأمر الأوّل أثّر الوجوب في الواقع وذهل عنه السامع ، ولو اريد به حصوله في الواقع فقط نمنع كون حصوله أيضا في الظاهر بالأمر الثاني تحصيلا له.
ومنع استحالة التخلّف لو اريد بها الدلالة ، كيف ومنع جواز تخلّف المدلول عن الدالّ ممّا لم يتفوّه به أحد ، ومنع التخلّف على تقدير الاستحالة ، فإنّ الدلالة بالأمر الثاني أيضا حاصلة كما هو الحال في سائر أنواع التأكيد.
غاية الأمر قيام هذا المدلول مؤكّدا لما دلّ عليه اللفظ أوّلا وهو أمر جائز مرغوب فيه ، بل راجح في أغلب المواضع كما عرفت.
والجواب عن الثاني : منع أولويّة فائدة التأسيس بالقياس إلى التأكيد إن استند في ذلك إلى ما ذكره أهل المعاني من أنّ في التأسيس إفادة والتأكيد إعادة والإفادة أولى ، لأنّ