فإن كان ذلك الشكّ حاصلا قبل وجوب ذلك الغير بدخول وقته رجع إلى أنّه هل هو مكلّف به أو لا؟ وهو شكّ في التكليف فيكون من مجاري أصالة البراءة ، إذ الأصل براءة الذمّة عن هذا التكليف بل عن تعدّد العقاب المترتّب على تركه مع ترك ذلك الغير بعد وجوبه ، فقضيّة ذلك كون وجوبه غيريّا وليس ذلك من باب الأصل المثبت ، لأنّ أصل الوجوب الدائر بين القسمين ثابت بالدليل ، فإذا نفى احتمال النفسيّة بالأصل تعيّن القسم الآخر في كونه مفادا للدليل فلا يكون ثابتا (١) بالأصل.
وإن كان حاصلا بعد وجوب الغير رجع إلى شرطيّته لذلك الغير ، فإن بني في تلك المسألة على العمل بالاشتغال فيحكم فيما نحن فيه بكونه شرطا ، لأنّه الموجب لحصول اليقين بالامتثال بعد اليقين بالاشتغال ، ويوافقه إستصحاب الأمر إن لم يكن يرجع إليه ، فيتّجه الحكم بالغيريّة من دون لزوم العمل بالأصل المثبت كما عرفت ، فيوافقه أصل البراءة الّذي كان جاريا قبل الوجوب ، وإن بني على العمل بالبراءة ـ كما هو الأقوى ـ يتوجّه الحكم بعدم الشرطيّة فيعارضها استصحاب الأمر إن غاير أصل الاشتغال ، ولكنّها واردة عليه هنا لما قرّر في محلّه وتقدّم منّا الإشارة إلى ذكر سرّه إجمالا في جملة من المباحث المتقدّمة.
نعم يبقى التعارض بينه وبين المجانس له الجاري قبل الوجوب من جهة أنّهما أصلان من جنس واحد ينفي أحدهما احتمال النفسيّة والآخر احتمال الغيريّة ، مع أنّ الواقع غير خال عن أحدهما ، ويمكن ترجيح ما يجري فيما بعد الوجوب على ما يجري فيما قبله لما يقتضي رجحانه على الاستصحاب وقاعدة الشغل ، نظرا إلى أنّ الشكّ معه سببي فإذا ارتفع بإجرائه يرتفع ما هو مسبّب عنه فيبقى الأصل الآخر بلا مورد كما لا يخفى.
ثمّ لا يذهب عليك أنّ الواجب الغيري أخصّ مطلقا من واجب المقدّمة على القول بوجوبها ، لأنّ الواجب من المقدّمة ما أوجبه العقل لوجوب غيره ، وهو قد يكون ممّا أوجبه الشرع لوجوب الغير ، فكلّ ما أوجبه الشرع لوجوب غيره فهو ما أوجبه العقل أيضا لوجوب ذلك الغير ولا عكس.
__________________
(١) والأصل إنّما يصير مثبتا إذا لم يدلّ على ما يترتّب عليه من الحكم دليل لا تفصيلا ولا إجمالا كما لو خرج المذي عن المكلّف فيشكّ في كونه موجبا للغسل أو الوضوء ، فإنّه إذا حكم بعدم وجوب شيء منهما عليه للأصل لا يجوز له الحكم بأنّ المذي ليس بناقض للطهارة شرعا ، ولا أنّه ليس من موجبات الغسل كالجنابة ونحوها لأنّه حكم لم يكن الأصل مسوقا لبيانه ولا أنّه ثابت بدليل وراءه ولو إجمالا فإثباته حينئذ لا وجه له إلاّ من باب العمل بالأصل المثبت ( منه عفي عنه ).