الفعل المأمور به في بعض الأحوال وأين ذلك من وضع الصيغة له بحسب اللغة.
وأمّا ما يجاب عنه أيضا من نفي البأس عن كون مفاد الصيغة هو الوجوب المصطلح ، بمعنى دلالتها على الإلزام الحاصل من العالي الّذي يستحقّ في مخالفته الذّم أو العقاب ، بأن تدلّ على الإلزام وعلى كون القائل بها شخص عال أوجب الفعل على المخاطب ، لجواز كونها بحسب اللغة موضوعة لخصوص « الأمر » وهو الطلب الصادر من العالي المستعلي ، فلا يكون الطلب الصادر من غيره ممّا وضع له اللفظ ، وقضيّة ذلك كون الاستعمال فيه مجازا ، ولعلّه مبتن على ما حكيناه عن بعض الأعلام من تحريره لمحلّ النزاع ، فبما قدّمنا في توهين هذه الدعوى يظهر الوهن في الجواب المذكور.
وإلى ذلك ينظر ما أورد عليه بعض الأفاضل من منع انحصار مدلول الصيغة حقيقة في ذلك ، كيف مع أنّ معظم استعمالاتها اللغويّة والعرفيّة على خلاف ذلك ، فدعوى دلالتها على كون المتكلّم بها ممّن يجب طاعته عقلا أو شرعا موهونة جدّا ، بل دعوى كونها موضوعة لخصوص « الأمر » غير ظاهرة أيضا ، بل الظاهر وضعها للأعمّ من « الأمر » و « الالتماس » و « الدعاء » فليس العلوّ والاستعلاء معتبرا في وضعها أصلا ، وإنّما يعتبر ذلك في كونها أمرا ، كما يعتبر خلافه في كونها التماسا أو دعاء ، وذلك ظاهر بعد ملاحظة الاستعمالات المتداولة كمال الظهور.
كيف ولو لا ذلك لم يكن للطلب الالتماسي والدعائي صيغة موضوعة يكون استعمالها فيهما حقيقة ، مع أنّ الحاجة إليهما في الاستعمالات ودورانهما في المخاطبات إن لم يكن أكثر من « الأمر » فليس بأقلّ منه ، فكيف يتصوّر تخصيص الواضع لوضع صيغة الطلب بالأمر وإهماله لهما.
ثمّ أجاب ذلك الفاضل عن أصل الاعتراض بنحو ما أشرنا إليه ، فقال : بمنع كون المراد بالوجوب هاهنا هو المعنى المصطلح ، بل المراد به الطلب الحتمي بمعنى طلب الفعل على وجه لا يرضى بتركه ، فالصيغة موضوعة له لغة ، فهو إن صدر من العالي أو المستعلي كان أمرا ، وإن صدر من غيره كان التماسا أو دعاءا ، ومدلول الصيغة وضعا شيء واحد في الجميع ، فخصوصيّة « الأمر » و « الالتماس » و « الدعاء » تعرف من ملاحظة حال القائل وليست تلك الخصوصيّات ممّا يستعمل اللفظ فيه ، واستحقاق الذمّ والعقاب على الترك بحسب الواقع إنّما يجيء بعد ثبوت وجوب الإتيان بما يطلبه المتكلّم من الخارج من العقل