بإعداده للعدوّ ليرهبوهم وليخيفوهم ، وهذا باب يطول جدا ، وفيما أومأت إليه دليل عما سواه مما يتصل به.
وأما سؤالك أيّدك الله عن مذاهب العرب في العرض ، وهل كانوا عارفين به أم كيف سمّوا شيئا لا يعرفون حقيقته ، فقد ذكرت لك أيدك الله أنّه ليس في كلامهم من اسم هزل ولا جدّ إلّا وتحته معنى من جنسه ، ولكنّهم لم يكونوا يذهبون بالعرض مذاهب المتفلسفة ولا طريق أهل الجدل ، وإن كان مذهبهم فيه لمن تدبّر مطابقا لغرض الفلاسفة والمتكلمين في حقيقته ، وذلك أنّهم يذهبون بالعرض إلى أسماء منها : أن يضعوه موضع ما اعترض لأحدهم من حيث لم يحتسبه ، كما يقال : علّقت فلانة عرضا أي اعتراضا من حيث لم أقدّره ، قال الأعشى : [البسيط]
٤١٦ ـ علّقتها عرضا وعلّقت رجلا |
|
غيري وعلّق أخرى ذلك الرّجل |
وقد يضعونه موضع ما لا يثبت فلا يدوم ، كقولهم : كان ذلك الأمر عن عرض ثم زال ، وقد يضعونه موضع ما يتصّل بغيره ويقوم به ، وقد يضعونه مكان ما يضعف ويقلّ ، فكأنّ المتكلمين استنبطوا العرض من أحد هذه المعاني فوضعوه لما قصدوا له ، وهو ـ إذا تأملته ـ غير خارج عن مذاهب العرب ، وكذلك الجوهر عند العرب ، إنما يشيرون به إلى الشيء النفيس الجليل ، فاستعمله المتكلمون فيما خالف الأعراض ، لأنّها أشرف منها ، وقد ولّدت أسماء في الإسلام لم تكن العرب قبله عارفة بها ، إلّا أنّها غير خارجة عن معاني كلامها واستفادة معرفتها إذ كانت على أوضاعها والمعاني التي تعقلها ، وذلك نحو الكافر والفاسق والمنافق إنما اشتقاق الكافر من كفرت الشيء إذا سترته وغطيته ، والفاسق من فسقت الرّطبة إذا خرجت من قشرها ، واشتقاق المنافق من النّافقاء وهو أحد جحرة اليربوع إلى كثير من ذلك يطول تعداده ، وكذلك في كل زمان وأوان لا يخلو الناس فيه من توليد أسماء يحدث لها أسباب ، فيتعارفونها بينهم بكل لغة ولسان ، فليس هذا منكرا إذا كان ذلك غير خارج عن الأصول المتفق عليها والمعاني المعقولة بينهم ، وفيما ضمّنت من كتاب الاشتقاق ما يدلك على ما التمست الوقوف عليه من هذا النحو ، وهذا من القول كاف في جواب ما سألت عنه ، وأطال الله بقاءك وأدام عزك وتأييدك ، وأتمّ نعمته عليك وعلى أهل العلم بك وفيك وعندك.
__________________
٤١٦ ـ الشاهد للأعشى في ديوانه (ص ١٠٧) ، وشرح التصريح (١ / ٢٨٦) ، ولسان العرب (عرض) و (علق) ، وتاج العروس (علق) ، والمقاصد النحوية (٢ / ٥٠٤) ، وبلا نسبة في أوضح المسالك (٢ / ١٣٦).