فهذا خلف من الكلام ، ليس في كلامهم كلمة جدّ ولا هزل إلّا وتحتها معنى من فنها ، ولو تكلف ذلك متكلف حتى يستقصيه لأوضح منه ما خفي ، فأمّا قولهم : إنّ العرب لم تدر ما الاستطاعة وما القدرة وما القوة فكيف يكون ذلك وقد جاء في الشعر الفصيح عن المطبوعين دون المتكلفين؟ قال عمرو بن معد يكرب : [الوافر]
٤١٤ ـ إذا لم تستطع شيئا فدعه |
|
وجاوزه إلى ما تستطيع |
وقال القطاميّ وهو حجة : [الوافر]
٤١٥ ـ أمور لو تدبّرها حليم |
|
لهيّب أو لحذّر ما استطاعا |
وهذا يكثر أدام الله تأييدك ، فأمّا القول في أنّهم إذا قيل لأحدهم : بم استطعت قطع الحبل أو هذا الطّنب أن يقول : بسكين أو شفرة أو سيف فللاستطاعة عندهم موضعان : موضع بفضل قوة وشدة بطش ، وموضع بآلة نحو : السيف والشفرة وما أشبههما ، وفي الجملة أنّهم لا يؤمنون بالاستطاعة إلّا إلى الإنسان دون سائر الحيوان ، ولهم ترتيب في لغتهم ، يقولون : فلان يستطيع أن يرقى هذا الجبل ، وهذا الجمل مطيق للسفر ، وهذا الفرس صبور على مماطلة الحضر ، وكذلك قول الله عزّ وجلّ : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) [آل عمران : ٩٧] ، إنّما قال : «استطاع» لمّا وقع الخطاب على «من» وهي تقع على من يعقل خاصة ، فلزم هذا الخطاب المستطيعين الحج بأيّ ضرب من الضروب كان مطلقا بزاد وراحلة وصحة بدن وكيفما وجد السبيل إليه ، هكذا ظاهر الخطاب ومخرجه على مذاهب كلام العرب.
وأمّا قوله عزّ وجلّ : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) [الأنفال : ٦٠] فليس المراد بالقوة هاهنا قوة الأجسام التي بها يكون بطشها وتصرّفها واقتدارها على ما تحاول ، لأنّ ذلك ليس إلى الناس الزيادة فيه ولا النّقصان منه ، وإنّما الله يزيد في قوى الأجسام وينقص منها كما يريد تبارك وتعالى ، وإنّما أريد به والله أعلم : وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوة أي : من الأشياء التي تتقوّون بها على العدو من سلاح وآلة وأصحاب وأنصار ، وغير ذلك ممّا تفلّون به غرب عدوكم وتعلون به عليهم ، وكذلك قوله : (وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) أي : وأعدّوا لهم من الخيل ما تتقوّون به عليهم ، وهذه القوة ورباط الخيل مّا كانوا يستطيعون إعداده ويمكنهم ، فأمروا
__________________
٤١٤ ـ الشاهد لعمرو بن معد يكرب في ديوانه (ص ١٤٥) ، وتاج العروس (زمع) و (طوع) و (ودع) ، والأصمعيات (ص ١٧٥).
٤١٥ ـ الشاهد في ديوانه (ص ٣٤) ، وطبقات فحول الشعراء (ص ٥٣٨).