المبتدأ من غير قرينة تشعر به أتى به ظاهرا مكان المضمر ، فصارت العبارة فيه كذلك ، وهو وجه حسن ولا بعد في مثل ذلك ، فإنّ العرب تجيز : «إن يكرمني زيد إنّي أكرمه» وتقديره : إني أكرم زيدا إن يكرمني ، فقد أوقعت زيدا موقع المضمر لما اضطررت إلى إعادة الضمير إليه وأوقعت المظهر لما أخّرته عن الظاهر ، فتبين لك اتساعهم في مثل ذلك وعكسه ويحتمل أن يقال : إنهم استعملوا غيرا بمعنى لا كما استعملوا لا بمعنى غير ، وذلك واسع في كلامهم ، فكأنه قال : لا تأسف على زمن هذه صفته ، ويدلّ على استعمالهم غيرا بمعنى لا قولهم : «زيد عمرا غير ضارب» ولا يقولون : «زيد عمرا مثل ضارب» لأنّ المضاف إليه لا يعمل فيما قبل المضاف ، ولكنه لمّا كانت غير تحمل على لا جاز فيها ما لا يجوز في مثل ، وإن كان بابهما واحدا ، وإذا كانوا قد استعملوا «أقلّ رجل يقول ذلك» بمعنى النفي مع بعده عنه بعض البعد فلأن يستعملوا غيرا بمعنى لا مع موافقتها لها في المعنى أجدر ، فإن قيل : فإذا قدرتموه بمعنى لا فلا بد له من إعراب من حيث إنه اسم فما إعرابه؟ قلنا : إعرابه كإعراب «أقلّ رجل يقول ذاك» فهو مبتدأ لا خبر له استغناء عنه ، لأنّ المعنى : ما رجل يقول ذاك ، فإذا كان كذلك صحّ المعنى من غير احتياج إلى خبر ، ولا استنكار بمبتدأ لا خبر له إذا كان المعنى بمعنى جملة مستقلة ، كقولهم : أقائم الزيدان ، فإنّه بالإجماع مبتدأ ولا يقدّر محذوف ، والزيدان فاعل به ، فهذا مبتدأ لا خبر له في اللفظ ولا في التقدير ، وإنما استقام لأنه في معنى أيقوم الزيدان؟ وكذلك قول بعض النحويين في مثل تراك ونزال : إنه مبتدأ وفاعله مضمر ، ولا خبر له لاستقامة المعنى من حيث كان معناه انزل واترك ، وهذا هو الصحيح فيه ، وقد ذهب كثير إلى أنه منصوب انتصاب المصدر ، كأنه قيل في نزال : انزل نزولا ، وهذا عندي ضعيف لأنه لو كان كذلك وجب أن يكون معربا بمثابة سقيا ورعيا ، ونحن نفرّق بين سقيا وبين نزال ، فكيف يمكن حملها على إعراب واحد وهو أن يكونا مصدرين مع أنّ أحدهما معرب والآخر مبني؟ والله أعلم.
وقال ابن مكتوم في موضع آخر من تذكرته : مأسوف مفعول من الأسف وهو الحزن ، و «على» متعلق به ، كقولك أسفت على كذا أسفا وحزنت عليه حزنا ولهفت عليه لهفا وأسيت عليه أسى ، وموضع قوله : «بالهم» نصب على الحال ، والتقدير : ينقضي مشوبا بالهمّ ، و «غير» رفع بالابتداء ، ولمّا أضيفت إلى اسم المفعول ، وهو مسند إلى الجار والمجرور ، استغنى المبتدأ عن خبر كما استغنى قائم ومضروب في قولك : «أقائم أخواك» و «ما مضروب غلاماك» عن خبر من حيث سدّ الاسم المرفوع بهما مسدّ الخبر ، لأنّ «قائم» و «مضروب» قاما مقام يقوم ويضرب ، فتنزّل كلّ واحد