ساكنة ونظيره قولهم في بني الحارث : بلحارث ، وهو شاذ ، والذي في البيت أشذّ منه لأنّ شرط هذا الحذف أن لا تكون اللام مدغمة فيما بعدها ، فلا يقال في بني النجار وبني النّضير : بنّجّار وبنّضير ، وعلّل ابن جني ذلك بكراهة توالي الإعلالين ، فإنّ اللام قد أعلّت بإدغامها فيما بعدها ، أعلّت النون التي قبلها بالحذف توالى الإعلالان ، وقد يردّ بأنّ ذلك إنما يتجنّب في الكلمة الواحدة ، ويجاب بأنّ كلّا من المتضايفين والجارّ والمجرور كالكلمة الواحدة فأعطيا حكمها ، وقوله : غرّا حال من النّيب ، وهو جمع غرّاء كحمراء وحمر وسوداء وسود ، وفي «الجاهلية» خبر كان إن قدّرت ناقصة أو متعلق بها إن قدّرت تامة بمعنى وجد ، وقوله : فهلمّ جرّا متعلق المعنى بقوله في الجاهلية ، أي : كان سؤدد وائل في الجاهلية فما بعدها.
وإذ قد أتينا على حكاية كلام الناس وشرحه وبيان ما ذكر فيه من نقد فلنذكر ما ظهر لنا في توجيه هذا الكلام بتقدير كونه عربيا ، فنقول : هلمّ هذه هي القاصرة التي بمعنى ائت وتعال ، إلّا أنّ فيها تجويزين :
الأول : أنّه ليس المراد بالإتيان هنا المجيء الحسّي ، بل الاستمرار على الشيء والمداومة عليه ، كما تقول : امش على هذا الأمر ، وسر على هذا المنوال ومنه قوله تعالى : (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ) [ص : ٦] ، المراد بالانطلاق ليس الذهاب الحسيّ بل انطلاق الألسنة بالكلام ، ولهذا أعربوا أن تفسيرية وهي إنما تأتي بعد جملة فيها معنى القول دون حروفه كقوله تعالى : (فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ) [المؤمنون : ٢٧] ، والمراد بالمشي ليس بالأقدام ، بل الاستمرار والدوام ، أي : دوموا على عبادة أصنامكم واحبسوا أنفسكم على ذلك.
الثاني : أنه ليس المراد الطلب حقيقة ، وإنما المراد الخبر ، وعبّر عنه بصيغة الطلب كما في قوله تعالى : (وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) [العنكبوت : ١٢] ، (فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) [مريم : ٧٥] ، و «جرّا» مصدر جرّه يجرّه إذا سحبه ، ولكن ليس المراد الجرّ الحسّيّ ، بل المراد التعميم كما استعمل السحب بهذا المعنى ، ألا ترى أنّه يقال : هذا الحكم منسحب على كذا أي شامل له؟ فإذا قيل : كان ذلك عام كذا وهلمّ جرّا فكأنّه قيل : واستمرّ ذلك في بقية الأعوام استمرارا ، فهو مصدر ، واستمر مستمرا فهو حال مؤكدة ، وذلك ماش في جميع الصور ، وهذا هو الذي يفهمه الناس من هذا الكلام ، وبهذا التأويل ارتفع إشكال العطف ، فإنّ (هلمّ) حينئذ خبر ، وإشكال التزام إفراد الضمير ، إذ فاعل هلمّ هذه مفرد أبدا ، كما تقول : واستمرّ ذلك أو واستمرّ ما ذكرته.