يا شيخ أترضى لنفسك بهذا الجواب؟ فأنكرنا ذلك على المجنون ، فنظر بعضنا إلى بعض ، فقال له أبو سعيد : هذا الذي عندنا ، فما عندك؟ فقال : المعنى يا شيخ : آبا ولم تعقد يد بمثل فعلها بعدهما ، لأنهما فعلا ما لم يفعله أحد ، كما قال الشاعر : [السريع]
٥٥٦ ـ فتى إذا عدّت تميم معا |
|
ساداتها عدّوه بالخنصر |
ألبسه الله ثياب النّدى |
|
فلم تطل عنه ولم تقصر |
أي : خلقت له ، وقريب من الأول قوله : [السريع]
٥٥٧ ـ قومي بنو مذحج من خير الأمم |
|
لا يصعدون قدما على قدم |
يعني أنّهم يتقدّمون الناس ولا يطؤون على عقب أحد ، وهذان فعلا ما لم يفعله أحد ، فلقد رأيت أبا سعيد وقد احمرّ وجهه واستحيى من أصحابه ، ثم غطّى المجنون رأسه وخرج وهو يقول : يتصدّرون فيغرّون الناس من أنفسهم ، فقال أبو سعيد بعد خروجه : اطلبوه ، فإنّي أظنّه إبليس ، فطلبناه فلم نظفر به. وفيه أيضا :
قال (١) : وحدّث محمد بن إسحاق النّديم ، قال : لمّا أراد المتوكّل أن يتخذ المؤدّبين لولده جعل ذلك إلى إيتاخ كاتبه أن يتولى ذلك ، فبعث إلى الطّوال والأحمر وابن قادم وأبي عصيدة وغيرهم من أدباء ذلك العصر ، فأحضرهم مجلسه ، وجاء أبو عصيدة فقعد في آخر الناس ، فقال له من قرب منه : لو ارتفعت فقال : بل أجلس حيث انتهى بي المجلس ، فلمّا اجتمعوا قال لهم الكاتب : لو تذاكرتم وقفنا على موضعكم من العلم واخترنا فألقوا بينهم بيت ابن عنقاء الفزاريّ : [الوافر]
٥٥٨ ـ ذريني إنّما خطئي وصوبي |
|
عليّ وإنّ ما أنفقت مال |
فقالوا : ارتفع مال بإنّما إذ كانت بمعنى الذي ، ثم سكتوا فقال لهم أبو عصيدة من آخر الناس : هذا الإعراب فما المعنى؟ فأحجم النّاس عن القول ، فقيل : فما المعنى قال : أراد ما لومك إيّاي وإنّ ما أنفقت مال ولم أنفق عرضا؟ فالمال لا ألام على إنفاقه ، فجاءه خادم صدر المجلس فأخذ بيده حتى تخطّى به إلى أعلاه ، وقال له : ليس هذا موضعك ، فقال : لأن أكون في مجلس أرفع منه إلا أعلاه أحبّ إليّ من أن أكون في مجلس أحطّ عنه ، فاختبر هو وابن قادم. وفيه أيضا (٣) :
__________________
(١) انظر معجم الأدباء (١ / ٤٦٦) ، ومجلس العلماء (ص ٦١) ، والدرر (٢ / ٦٩).
٥٥٨ ـ الشاهد لأوس بن غلفاء في إنباه الرواة (١ / ١٢٠) ، وخزانة الأدب (٨ / ٣١٣) ، والدرر (٥ / ٥٦) ، والشعر والشعراء (٢ / ٦٤٠) ، ولسان العرب (صوب) ، والمقاصد النحوية (٤ / ٢٤٩) ، ونوادر أبي زيد (ص ٤٦) ، وبلا نسبة في جمهرة اللغة (ص ٣٥١).
(٢) انظر معجم الأدباء (٢ / ٩٨).