الراح ، والحضّ على النبذ للهموم والاطّراح ، بمعاطاة كأسها ، وموالاة إيناسها ، ومعاقرة دنانها ، واهتصار ثمار الفتوّة من أفنانها (١) ، والإعراض عن الأيام وأنكادها ، والجري في ميدان الصّبوة إلى أبعد آمادها : [الكامل]
سلّ الهموم إذا نبا زمن |
|
بمدامة صفراء كالذّهب |
مزجت فمن درّ على ذهب |
|
طاف ومن حبب على لهب |
وكأنّ ساقيها يثير شذى |
|
مسك لدى الأقوام منتهب |
ولله هو فقد ندب إلى المندوب ، وذهب إلى مداواة القلوب من الندوب ، وإبرائها من الآلام ، وإهدائها كلّ تحية وسلام ، وإبهاجها بآصال وبكر ، وعلاجها من هموم وفكر ، في زمن حلي عاطله ، وجلّي في أحسن الصور باطله ، ونفقت محالاته (٢) ، وطبقت أرضه وسماءه استحالاته ، فليثه كأسد ، وذئبه مستأسد وأضغاثه تنسر (٣) ، وبغاثه قد استنسر (٤) ، فلا استراحة إلا في معاطاة حميّا ، ومواخاة وسم المحيّا (٥) ، وقد كان ابن عمار ذهب مذهب ، وفضّضه بالإبداع وذهّبه ، حين دخل سرقسطة ورأى غباوة أهلها ، وتكاثف جهلها ، وشاهد منهم من لا يعلم معنى ولا فصلا ، وواصل من لا يعرف قطعا ولا وصلا ، فأقبل على راحه يتعاطاها ، وعكف عليها ما تعدّاها ولا تخطّاها ، حتى بلغه أنهم نقموا معاقرته العقار ، وجالت ألسنتهم في توبيخه مجال ذي الفقار (٦) ، فقال : [الطويل]
نقمتم عليّ الرّاح أدمن شربها |
|
وقلتم فتى راح وليس فتى مجد |
ومن ذا الّذي قاد الجياد إلى الوغى |
|
سواي ومن أعطى كثيرا ولم يكد؟(٧) |
فديتكمو لم تفهموا السّرّ ، إنّما |
|
قليتكم جهدي فأبعدتكم جهدي |
(٨) ودعى ابن السيد ليلة إلى مجلس قد احتشد فيه الأنس والطرب ، وقرع فيه السرور نبعه بالغرب ، ولاحت نجوم أكواسه ، وفاح نسيم رنده وآسه ، وأبدت صدور أباريقه أسرارها ،
__________________
(١) الأفنان : جمع فنن ، وهو الغصن. وفي ب : وأفنانها.
(٢) نفقت حالاته : راجت.
(٣) في ب : وحفّاثه تنمر.
(٤) أخذه في المثل : إن البغاث بأرضنا تستنسر.
(٥) في ب : وسيم المحيا.
(٦) ذو الفقار : سيف الإمام علي بن أبي طالب.
(٧) أكدى : لم يظفر بحاجته.
(٨) قليتكم : كرهتكم.