فقضى حاجتي ، وأجاب بقوله :
وحقّ درّ تألّف |
|
بفيك أيّ تألّف |
لأبعثنّ بما قد |
|
حوى الغريب المصنّف |
ولو بعثت بنفسي |
|
إليك ما كنت أسرف |
فرحم الله تعالى تلك الأرواح الطاهرة!.
وذكر ابن أصبغ الهمداني عن منذر أنه خطب يوما ، وأراد التواضع ، فكان من فصول خطبته أن قال (١) : حتى متى وإلى متى (٢) أعظ ولا أتعظ ، وأزجر ولا أنزجر ، أدل الطريق إلى (٣) المستدلين ، وأبقى مقيما مع الحائرين؟ كلا إن هذا لهو البلاء المبين (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ) [الأعراف : ١٥٥] الآية ، اللهم فرغني لما خلقتني له ، ولا تشغلني بما تكفّلت لي به ، ولا تحرمني وأنا أسألك ، ولا تعذبني وأنا أستغفرك ، يا أرحم الراحمين.
وسمع منذر بالأندلس من عبيد الله بن يحيى بن يحيى ونظرائه ، ثم رحل حاجا سنة ثمان وثلاثمائة فاجتمع بعدّة أعلام ، وظهرت فضائله بالمشرق ، وممن سمع عليه منذر بالمشرق ثم بمكة محمد بن المنذر النيسابوري ، سمع عليه كتابه المؤلف في اختلاف العلماء المسمى «بالإشراف» وروى بمصر كتاب «العين» للخليل عن أبي العباس بن ولّاد ، وروى عن أبي جعفر بن النحاس ، وكان منذر متفننا في ضروب العلوم وغلب عليه التفقه بمذهب أبي سليمان داود بن علي الأصبهاني المعروف بالظاهري ، فكان منذر يؤثر مذهبه ، ويجمع كتبه ، ويحتج لمقالته ، ويأخذ به في نفسه وذويه ، فإذا جلس للحكومة قضى بمذهب الإمام مالك وأصحابه ، وهو الذي عليه العمل بالأندلس ، وحمل السلطان أهل مملكته عليه ، وكان خطيبا ، بليغا ، عالما بالجدل ، حاذقا فيه ، شديد العارضة ، حاضر الجواب عتيده ، ثابت الحجة ذا شارة عجيبة (٤) ، ومنظر جميل ، وخلق حميد ، وتواضع لأهل الطلب ، وانحطاط إليهم ، وإقبال عليهم ، وكان ـ مع وقاره التام ـ فيه دعابة مستملحة ، وله نوادر مستحسنة ، وكانت ولايته القضاء بقرطبة للناصر في شهر ربيع الآخر سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة ، ولبث قاضيا من ذلك
__________________
(١) انظر تاريخ قضاة الأندلس ص ٦٩.
(٢) وإلى متى : غير موجودة في ب.
(٣) في ب ، ه ، وتاريخ قضاة الأندلس : على المستدلين.
(٤) في ه : ذا إشارة.